﴿وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِى﴾ : أي مضت، ولم يخرج منهم أحد ولا بعث. وقال أبو سليمان الدمشقي :﴿وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِى﴾ مكذبة بالبعث. ﴿وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ﴾، يقال : استغثت الله واستغثت بالله، والاستعمالان في لسان العرب. وقد رددنا على ابن مالك إنكار تعديته بالباء، وذكرنا شواهد على ذلك في الأنفال، أي يقولان : الغياث بالله منك ومن قولك، وهو استعظام لقوله :﴿وَيْلَكَ﴾، دعاء عليه بالثبور ؛ والمراد به الحث والتحريض على الإيمان لا حقيقة الهلاك. وقيل : ويلك لمن يحقر ويحرك لأمر يستعجل إليه. وقرأ الأعرج، وعمرو بن فائدة :﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ﴾، بفتح الهمزة، أي : آمن بأن وعد الله حق، والجمهور بكسرها، ﴿فَيَقُولُ مَا هَاذَآ﴾ : أي ما هذا الذي يقول ؟ أي من الوعد بالبعث من القبور، إلا شيء سطره الأولون في كتبهم، ولا حقيقة له. قال ابن عطية : وظاهر الفاظ هذه الآية أنها نزلت في مشار إليه قال وقيل له، فنفى الله أقواله تحذيراً من الوقوع في مثلها.
وقوله :﴿أُوالَا ِكَ﴾، ظاهره أنه إشارة إلى جنس يتضمنه قوله :﴿وَالَّذِى قَالَ﴾، ويحتمل أن تكون الآية في مشار إليه، ويكون قوله في أولئك بمعنى صنف هذا المذكور وجنسه هم :﴿الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ﴾ أي قول الله أنه يعذبهم ﴿فِى أُمَمٍ﴾، أي جملة :﴿أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالانسِ﴾، يقتضي أن الجنس يموتون قرناً بعد قرن كالإنس. وقال الحسن في بعض مجالسه : الجن لا يموتون، فاعترضه قتادة بهذه الآية فسكت. وقرأ العباس، عن أبي عمرو : أنهم كانوا، بفتح الهمزة، والجمهور بالكسر. ﴿وَلِكُلِّ﴾ : أي من المحسن والمسيء، ﴿دَرَجَاتٌ﴾ غلب درجات، إذ الجنة درجات والنار دركات، والمعنى : منازل ومراتب من جزاء ما عملوا من الخير والشر، ومن أجل ما عملوا منها. قال ابن زيد : درجات المحسنين تذهب علواً، ودرجات المسيئين تذهب سفلاً. انتهى. والمعلل محذوف تقديره : وليوفيهم أعمالهم قدر جزائهم، فجعل الثواب درجات والعقاب دركات. وقرأ الجمهور : وليوفيهم بالياء، أي الله تعالى ؛ والأعمش، والأعرج، وشيبة، وأبو جعفر، والإخوان، وابن ذكوان، ونافع : بخلاف عنه بالنون ؛ والسلمي : بالتاء من فوق، أي ولنوفيهم الدرجات، أسند التوفية إليها مجازاً.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٥٢
﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ﴾.
﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ﴾ :
٦٢
أي يعذب بالنار، كما يقال : عرض على السيف، إذا قتل به. والعرض : المباشرة، كما تقول : عرضت العود على النار : أي باشرت به النار. وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد عرض النار عليهم من قولهم : عرضت الناقة على الحوض، يريدون عرض الحوض عليها، فقلبوا. ويدل عليه تفسير ابن عباس : يجاء بهم إليها فيكشف لهم عنها. انتهى. ولا ينبغي حمل القرآن على القلب، إذ الصحيح في القلب أنه مما يضطر إليه في الشعر. وإذا كان المعنى صحيحاً واضحاً مع عدم القلب، فأي ضرورة ندعو إليه ؟ وليس في قولهم : عرضت الناقة على الحوض، ولا في تفسير ابن عباس ما يدل على القلب، لأن عرض الناقة على الحوض، وعرض الحوض على الناقة، كل منهم صحيح ؛ إذ العرض أمر نسبي يصح إسناده لكل واحد من الناقة والحوض. وقرأ الجمهور : أذهبتم على الخبر، أي فيقال لهم : أذهبتم، ولذلك حسنت الفاء في قوله :﴿فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ﴾. وقرأ قتادة، ومجاهد، وابن وثاب، وأبو جعفر، والأعرج، وابن كثير : بهمزة بعدها مدة مطولة، وابن عامر، بهمزتين حققهما ابن ذكوان، ولين الثانية هشام، وابن كثير في رواية. وعن هشام : الفصل بين المحققة والملينة بألف، وهذا الاستفهام هو على معنى التوبيخ والتقرير، فهو خبر في المعنى، فلذلك حسنت الفاء، ولو كان استفهاماً محضاً لم تدخل الفاء. والطيبات هنا : المستلذات من المآكل والمشارب والملابس والمفارش والمراكب والمواطىء، وغير ذلك مما يتنعم به أهل الرفاهية.