وهذه الآية محرضة على التقلل من الدنيا، وترك التنعم فيها، والأخذ بالتقشف، وما يجتزي به رمق الحياة عن رسول الله في ذلك ما يقتضي التأسي به. وعن عمر في ذلك أخبار تدل على معرفته بأنواع الملاذ، وعزة نفسه الفاضلة عنها. أتظنون أنا لا نعرف خفض العيش ؟ ولو شئت لجعلت أكباداً وصلاء وصلائق، ولكن استبقي حسناني ؛ فإن الله عز وجل وصف أقواماً فقال :﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم﴾. والصلاء الشواء والصفار المتخذ من الخردل والزبيب، والصلائق : الخبز الرقاق العريض. قال ابن عباس : وهذا من باب الزهد، وإلا فالآية نزلت في كفار قريش ؛ والمعنى : أنه كانت تكون لكم طيبات الآخرة لو آمنتم، لكنكم لم تؤمنوا، فاستعجلتم طيباتكم في الحياة الدنيا. فهذه كناية عن عدم الإيمان، ولذلك نزلت عليه :﴿فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ﴾ ؛ ولو أريد الظاهر، ولم يكن كناية عن ما ذكرنا، لم يترتب عليه الجزاء بالعذاب. وقرىء : الهوان، وهو والهون بمعنى واحد ثم بين تلك الكناية بقوله :﴿بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ﴾ : أي تترفعون عن الإيمان ؛ ﴿وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ﴾ : أي بمعاصي الجوارح وقدم ذنب القلب، وهو الاستكبار على ذنب الجوارح ؛ إذ أعمال الجوارح ناشئة عن مراد القلب.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٥٢
ولما كان أهل مكة مستغرقين في لذات الدنيا، معرضين عن الإيمان وما جاء به الرسول، ذكرهم بما جرى للعرب الأولى، وهم قوم عاد، وكانوا أكثر أموالاً وأشد قوة وأعظم جاهاً فيهم، فسلط عليهم العذاب بسبب كفرهم، وضرب الأمثال. وقصص من تقدم تعرف بقبح الشيء وتحسينه، فقال لرسوله : واذكر لقومك، أهل مكة، هوداً عليه السلام، ﴿إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ﴾ عاداً عذبهم الله ﴿بِالاحْقَافِ﴾. قال ابن عباس : واد بين عمان ومهرة. وقال ابن إسحاق : من عمان إلى
٦٣
حضرموت. وقال ابن زيد : رمال مشرقة بالشحر من اليمن. وقيل : بين مهرة وعدن. وقال قتادة : هي بلاد الشحر المواصلة للبحر اليماني. وقال ابن عباس : هي جبل بالشام. قال ابن عطية : والصحيح أن بلاد عاد كانت باليمن، ولهم كانت ﴿إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ﴾، وفي ذكر هذه القصة اعتبار لقريش وتسلية للرسول، إذ كذبه قومه، كما كذبت عاد هوداً عليه السلام. والجملة من قوله :﴿وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ﴾ : وهو جمع نذير، ﴿مِّنا بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ﴾، يحتمل أن تكون حالاً من الفاعل في :﴿النُّذُرُ مِنا بَيْنِ يَدَيْهِ﴾، وهم الرسل الذين تقدموا زمانه، ومن خلفه الرسل الذين كانوا في زمانه، ويكون على هذا معنى ﴿وَمِنْ خَلْفِهِ﴾ : أي من بعد إنذاره ؛ ويحتمل أن يكون اعتراضاً بين إنذار قومه وأن لا تعبدوا. والمعنى : وقد أنذر من تقدمه من الرسل، ومن تأخر عنه مثل ذلك، فاذكرهم.
﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا﴾ : استفهام تقرير، وتوبيخ وتعجيز له فيما أنذره إياهم من العذاب العظيم على ترك إفراد الله بالعبادة. ﴿لِتَأْفِكَنَا﴾ : لتصرفنا، قاله الضحاك ؛ أو لتزيلنا عن آلهتنا بالإفك، وهو الكذب، أي عن عبادة آلهتنا، ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ﴾ : استعجال منهم بحلول ما وعدهم به من العذاب. ألا ترى إلى قوله : بل هو ما استعجلتم به ؟ ﴿قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ﴾ : أي علم وقت حلوله، وليس تعيين وقته إليّ، وإنما أنا مبلغ ما أرسلني به الله إليكم. ولما تحقق عنده وعد الله، وأنه حال بهم وهم في غفلة من ذلك وتكذيب، قال :﴿وَلَـاكِنِّى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ﴾ : أي عاقبة أمركم لا شعور لكم بها، وذلك واقع لا محالة. وكانت عاد قد حبس الله عنها المطر أياماً، فساق الله إليهم سحابة سوداء خرجت عليهم من واد يقال له المغيث، فاستبشروا. والضمير في ﴿رَأَوْهُ﴾ الظاهر أنه عائد على ما في قوله :﴿بِمَا تَعِدُنَآ﴾، وهو العذاب، وانتصب عارضاً على الحال من المفعول. وقال ابن عطية، ويحتمل أن يعود على الشيء المرئي الطالع عليهم، الذي فسره قوله :﴿عَارِضًا﴾.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٥٢
وقال الزمخشري :﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ﴾، في الضمير وجهان : أن يرجع إلى ما تعدنا، وأن يكون مبهماً، قد وضح أمره بقوله :﴿عَارِضًا﴾، إما تمييز وإما حال، وهذا الوجه أعرب وأفصح. انتهى. وهذا الذي ذكر أنه أعرب وأفصح ليس جارياً على ما ذكره النحاة، لأن المبهم الذي يفسره ويوضحه التمييز لا يكون إلا في باب رب، نحو : رب رجلاً لقيته، وفي باب نعم وبئس على مذهب البصريين، نحو : نعم رجلاً زيد، وبئس غلاماً عمرو. وأما أن الحال يوضح المبهم ويفسره، فلا نعلم أحداً ذهب إليه، وقد حضر النحاة المضمر الذي يفسره ما بعده، فلم يذكروا فيه مفعول رأي إذا كان ضميراً، ولا أن الحال يفسر الضمير ويوضحه. والعارض : المعترض في الجو من السحاب الممطر، ومنه قول الشاعر :
يا من رأى عارضاً أرقت لهبين ذراعي وجبهة الأسد
وقال الأعشى :