﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى ﴾ : خطاب لقريش على جهة التمثيل لهم، والذي حولهم من القرى : مأرب، وحجر، ثمود، وسدوم. ويريد من أهل القرى :﴿وَصَرَّفْنَا الايَـاتِ﴾، أي الحجج والدلائل والعظاة لأهل تلك القرى، ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ عن ما هم فيه من الكفر إلى الإيمان، فلم يرجعوا. ﴿فَلَوْلا نَصَرَهُمُ﴾ : أي فهلا نصرهم حين جاءهم الهلاك ؟ ﴿الَّذِينَ اتَّخَذُوا ﴾ : أي اتخذوهم، ﴿مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا﴾ : أي في حال التقرب وجعلتهم شفعاء. ﴿ءَالِهَةً﴾ : وهو المفعول الثاني لا تخذوا، والأول الضمير المحذوف العائد على الموصول. وأجاز الحوفي وابن عطية وأبو البقاء أن يكون قرباناً مفعولاً ثانياً لا تخذوا آلهة بدل منه. وقال الزمخشري : وقرباناً حال، ولا يصح أن يكون قرباناً مفعولاً ثانياً وآلهة بدل منه، لفساد المعنى. انتهى. ولم يبين الزمخشري كيف يفسد المعنى، ويظهر أن المعنى صحيح على ذلك الإعراب. وأجاز الحوفي أيضاً أن يكون قرباناً مفعولاً من أجله.
﴿بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ﴾ : أي غابوا عن نصرتهم. وقرأ الجمهور : إفكهم، بكسر الهمزة وإسكان الهاء وضم الكاف ؛ وابن عباس في رواية : بفتح الهمزة. والإفك مصدر إن. وقرأ ابن عباس أيضاً، وابن الزبير، والصباح بن العلاء الأنصاري، وأبو عياض، وعكرمة، وحنظلة بن النعمان ابن مرة، ومجاهد : إفكهم، بثلاث فتحات : أي صرفهم ؛ وأبو عياض، وعكرمة أيضاً : كذلك، إلا أنهما شددا الفاء للتكثير ؛ وابن الزبير أيضاً، وابن عباس، فيما ذكر ابن خالويه : آفكهم بالمد، فاحتمل أن يكون فاعل. فالهمزة أصلية، وأن يكون أفعل، فالهمزة للتعدية، أي جعلهم يأفكون، ويكون أفعل بمعنى المجرد. وعن الفراء أنه قرىء : أفكهم بفتح الهمزة والفاء وضم الكاف، وهي لغة في الأفك ؛ وابن عباس، فيما روى قطرب، وأبو الفضل الرازي : آفكهم اسم فاعل من آفك، أي صارفهم، والإشارة بذلك على من قرأ :
٦٦
إفكهم مصدراً إلى اتخاذ الأصنام آلهة، أي ذلك كذبهم وافتراؤهم. وقال الزمخشري : وذلك إشارة إلى امتناع نصرة آلهتهم لهم وضلالهم عنهم، أي وذلك إثر إفكهم الذي هو اتخاذهم إياها آلهة، وثمرة شركهم وافترائهم على الله الكذب من كونه ذا شركاء. انتهى. وعلى قراءة من جعله فعلاً معناه : وذلك الاتخاذ صرفهم عن الحق، وكذلك قراءة اسم الفاعل، أي صارفهم عن الحق. ويحتمل أن تكون ما مصدرية، أي وافتراؤهم، وأن تكون بمعنى الذي والعائد محذوف، أي يفترونه}.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٥٢
﴿وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءَانَ﴾ : ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه لما بين أن الإنسي مؤمن وكافر، وذكر أن الجن فيهم مؤمن وكافر ؛ وكان ذلك بأثر قصة هود وقومه، لما كان عليه قومه من الشدة والقوة. والجن توصف أيضاً بذلك، كما قال تعالى :﴿قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الْجِنِّ أَنَا ءَاتِيكَ بِهِا قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَا وَإِنِّى عَلَيْهِ لَقَوِىٌّ أَمِينٌ﴾. وإن ما أهلك به قوم هود هو الريح، وهو من العالم الذي لا يشاهد، وإنما يحس بهبوبه. والجن أيضاً من العالم الذي لا يشاهد. وإن هوداً عليه السلام كان من العرب، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم من العرب، فهذه تجوز أن تكون مناسبة لهذه الآية بما قبلها. وفيها أيضاً توبيخ لقريش وكفار العرب، حيث أنزل عليهم هذا الكتاب المعجز، فكفروا به، وهم من أهل اللسان الذي أنزل به القرآن، ومن جنس الرسول الذي أرسل إليهم. وهؤلاء جن، فليسوا من جنسه، وقد أثر فيهم سماع القرآن وآمنوا به وبمن أنزل عليه، وعلموا أنه من عند الله، بخلاف قريش وأمثالها، فهم مصرون على الكفر به.
﴿وَإِذْ صَرَفْنَآ﴾ : وجّهنا إليك. وقرأ : صرفنا، بتشديد الراء، لأنهم كانوا جماعة، فالتكثير بحسب الحال. ﴿نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ﴾، والنفر دون العشرة، ويجمع على أنفار. قال ابن عباس : كانوا سبعة، منهم زوبعة. والذي يجمع اختلاف الروايات، أن قصة الجن كانت مرتين.
إحداهما : حين انصرف من الطائف، وكان خرج إليهم يستنصرهم في قصة ذكرها أصحاب السير. فروى أن الجن كانت تسترق السمع ؛ فلما بعث الرسول، حرست السماء، ورمي الجن بالشهب، قالوا : ما هذا إلا أمر حدث. وطافوا الأرض، فوافوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بوادي نخلة، وهو قائم يصلي ؛ فاستمعوا لقراءته، وهو لا يشعر ؛ فأنبأه الله باستماعهم.


الصفحة التالية
Icon