والظاهر أن قوله :﴿حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ﴾ غاية لقوله :﴿فَشُدُّوا الْوَثَاقَ﴾، لأنه قد غيا فضرب الرقاب بشد الوثاق وقت الإثخان. فلا يمكن أن يغيا بغاية أخرى لتدافع الغايتين، إلا إن كانت الثانية مبينة للأولى ومؤكدة، فيجوز، لأن شد الوثاق للأسرى لا يكون إلا حتى تضع الحرب أوزارها. إذا فسرنا ذلك بانتفاء شوكة الكفار الملقيين إذ ذاك، ويكون الحرب المراد بها التي تكون وقت لقاء المؤمنين للكفار، ويجوز أن يكون المغيا محذوفاً يدل عليه المعنى، التقدير : الحكم ذلك حتى تضع الحرب أوزارها، أي لا يبقى شوكة لهم. أو كما قال ابن عطية : إنها استعارة بمعنى إلى يوم القيامة، أي اصنعوا ذلك دائماً. وقال الزمخشري : فإن قلت : حتى بم تعلقت ؟ قلت : لا يخلو من أن تتعلق إما بالضرب والشد، أو بالمنّ والفداء. فالمعنى على كلا المتعلقين عند الشافعي رحمه الله : أنهم لا يزالون على ذلك أبداً إلى أن يكون حرب مع المشركين، وذلك إذا لم يبق لهم شوكة. وقيل : إذا نزل عيسى بن مريم ؛ وعند أبي حنيفة رحمه الله : إذا علق بالضرب والشد. فالمعنى : أنهم يقتلون ويؤسرون حتى تضع جنس الحرب الأوزار، وذلك حتى لا يبقى شوكة للمشركين. وإذا علق بالمن والفداء، فالمعنى : أنهم يمن عليهم ويفادون حتى تضع حرب بدر أوزارها، إلى أن تناول المن والفداء، يعني : بتناول المن بأن يتركوا عن القتل ويسترقوا، أي بالتخلية بضرب الجزية بكونهم من أهل الذمة، وبالعذاب أن يفادى بأسارى المشركين أسارى المسلمين. وقد رواه الطحاوي مذهباً لأبي حنيفة ؛ والمشهور أنه لا يرى فداءهم بمال ولا غيره، خيفة أن يعودوا حدباً للمسلمين. ﴿ذَالِكَ﴾ أي الأمر ذلك إذا فعلوا.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٩
﴿ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ انتَصَرَ مِنْهُمْ﴾ : أي لا أنتقم منهم ببعض أسباب الهلاك، من خسف، أو رجفة، أو حاصب، أو غرق، أو موت جارف. ﴿وَلَـاكِن لِّيَبْلُوَا ﴾ : أي ولكن : أمركم بالقتال ليبلو بعضكم، وهم المؤمنون، أي يختبرهم ببعض، وهم الكافرون، بأن يجاهدوا ويصبروا، والكافرين بالمؤمنين بأن يعاجلهم على أيديهم ببعض ما وجب لهم من العذاب. وقرأ الجمهور : قاتلوا، بفتح القاف والتاء، بغير ألف ؛ وقتادة، والأعرج، والأعمش، وأبو عمرو، وحفص : قتلوا مبنياً للمفعول، والتاء خفيفة، وزيد بن ثابت، والحسن، وأبو رجاء، وعيسى، والجحدري أيضاً : كذلك. وقرأ علي :﴿فَلَن يُضِلَّ﴾ مبنياً للمفعول ؛ ﴿أَعْمَـالَهُمْ﴾ : رفع. وقرىء : يضل، بفتح الياء، من ضل أعمالهم : رفع. ﴿سَيَهْدِيهِمْ﴾ : أي إلى طريق الجنة. وقال مجاهد : يهتدي أهل الجنة إلى مساكنهم منها لا يخطؤون، لأنهم كانوا سكانها منذ خلقوا، لا يستبدلوا عليها. وروى عياض عن أبي عمرو :﴿وَيُدْخِلُهُمُ﴾، و﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ﴾، و﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ﴾، بسكون لام الكلمة. ﴿عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾، عن مقاتل : أن الملك الذي وكل بحفظ عمله في الدنيا يمشي بين يديه فيعرفه كل شيء أعطاه الله. وقال أبو سعيد الخدري، ومجاهد، وقتادة : معناه بينها لهم، أي جعلهم يعرفون منازلهم منها. وفي
٧٥
الحديث لأحدكم بمنزلة في الجنة أعرف منه بمنزلة في الدنيا. وقيل : سماها لهم ورسمها كل منزل بصاحبه، وهذا نحو من التعريف. يقال : عرف الدار وأرفها : أي حددها، فجنة كل أحد مفرزة عن غيرها. والعرف والأرف : الحدود. وقيل : شرفها لهم ورفعها وعلاها، وهذا من الأعراف التي هي الجبال وما أشبهها. وقال مؤرج وغيره : طيبها، مأخوذ من العرف، ومنه : طعام معرف : أي مطيب، أي وعرفت القدر طيبتها بالملح والتابل.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٩