﴿أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ﴾ : استفهام توقيف وتقرير على كل شيء متفق عليه، وهي معادلة بين هذين الفريقين. قال قتادة : والإشارة إلى الرسول وإلى كفار قريش. انتهى. واللفظ عام لأهل الصنفين. ومعنى على بينة : واضحة، وهو القرآن المعجز وسائر المعجزات. ﴿كَمَن زُيِّنَ لَه سُواءُ عَمَلِهِ﴾ : وهو الشرك والكفر بالله وعبادة غيره. ﴿وَاتَّبَعُوا أَهْوَآءَهُم﴾ : أي شهوات أنفسهم ممن لا يكون له بينة، فعبدوا غير خالقهم. والضمير في واتبعوا عائد على معنى من، وقرىء أمن كان بغير فاء. ﴿مَّثَلُ الْجَنَّةِ﴾ : أي صفة الجنة، وهو مرفوع بالابتداء. قال الزمخشري : قال النضر بن شميل : كأنه قال : صفة الجنة، وهو ما تسمعون. انتهى. فما تسمعون الخبر، وفيها أنها تفسير لتلك الصفة، فهو استئناف إخبار عن تلك الصفة. وقال سيبويه : فيما يتلى عليكم مثل الجنة، وقدر الخبر المحذوف متقدماً، ثم فسر ذلك الذي يتلى. وقال ابن عطية : وفي الكلام حذف يقتضيه الظاهر، كأنه قيل : مثل الجنة ظاهر في نفس من وعى هذه الأوصاف. وكان ابن عطية قد قال قبل هذا : ويظهر أن القصد بالتمثيل هو إلى الشيء الذي يتخيله المرء عند سماعه. فههنا كذا، فكأنه يتصور عند ذلك اتباعاً على هذه الصورة، وذلك هو مثل الجنة. قال : وعلى هذه التأويلات، يعني قول النضر وقول سيبويه، وما قاله هو يكون قبل قوله :﴿كَمَنْ هُوَ خَـالِدٌ فِى النَّارِ﴾ حذف تقديره : أساكن ؟ أو أهؤلاء ؟ إشارة إلى المتقين. قيل : ويحتمل عندي أن يكون الحذف في صدر هذه الآية، كأنه قال : مثل أهل الجنة، وهي بهذه الأوصاف، ﴿كَمَنْ هُوَ خَـالِدٌ فِى النَّارِ﴾. ويجيء قوله :﴿فِيهَآ أَنْهَـارٌ﴾ في موضع الحال على هذا التأويل. انتهى. ولم يذكر الزمخشري غير هذا الوجه. قال : ومثل الجنة : صفة الجنة العجيبة الشأن، وهو مبتدأ، وخبر من هو خالد في النار. وقوله :﴿فِيهَآ أَنْهَـارٌ﴾، في حكم الصلة، كالتكرير لها. ألا ترى إلى سر قوله : التي فيها أنهار ؟ ويجوز أن تكون خبر مبتدأ محذوف هي : فيها أنهار، كأن قائلاً قال : وما مثلها ؟ فقيل : فيها أنهار.
وقال الزمخشري أيضاً : فإن قلت : ما معنى قوله :﴿مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَا فِيهَآ أَنْهَـارٌ﴾ ؟ قال :﴿كَمَنْ هُوَ خَـالِدٌ فِى النَّارِ﴾. قلت : هو كلام في صورة الإثبات، ومعناه النفي والإنكار، لانطوائهم تحت كلام مصدر بحرف الإنكار، ودخوله في حيزه، وانخراطه في مسلكه، وهو قوله :﴿أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِا كَمَن زُيِّنَ لَه سُواءُ عَمَلِهِ﴾، فكأنه قيل : مثل الجنة كمن هو خالد في النار، أي كمثل جزاء من هو خالد في النار. فإن قلت : لم على من حرف الإنكار ؟ وما فائدة التعرية ؟ قلت : تعريته من حرف الإنكار فيها زيادة تصوير لمكابرة من سوى بين المستمسك بالبينة والتابع لهواه، وأنه بمنزلة من يثبت التسوية بين الجنة التي تجري فيها تلك الأنهار، وبين النار التي يسقى أهلها الحميم، ونظيره قول القائل :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٩
أفرح أن أرزأ الكرام وأنأورث ذوداً شصائصاً نبلا
هو كلام منكر للفرح برزية الكرام ووراثة الذود، مع تعريته من حرف الإنكار، لانطوائه تحت حكم
٧٨
من قال : أتفرح بموت أخيك، وبوراثة إبله ؟ والذي طرح لأجله حرف الإنكار إرادة أن يصور قبح ما أزن به، فكأنه قال : نعم مثلي يفرح بمرزأة الكرام، وبأن يستبدل منهم ذوداً يقل طائله، وهو من التسليم الذي تحته كل إنكار. انتهى. وتلخص من هذا الاتفاق على إعراب :﴿مَّثَلُ الْجَنَّةِ﴾ مبتدأ، واختلفوا في الخبر، فقيل : هو مذكور، وهو :﴿كَمَنْ هُوَ خَـالِدٌ فِى النَّارِ﴾. وقيل : محذوف، فقيل : مقدر قبله، وهو قول سيبويه. وقيل : بعده، وهو قول النضر وابن عطية على اختلاف التقدير. ولما بين الفرق بين الفريقين في الاهتداء والضلال، بين الفرق بينهما فيما يؤولان إليه. وكما قدم من على بينة، على من اتبع هواه، قدّم حاله على حاله.


الصفحة التالية
Icon