والأكثرون على أن :﴿طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ﴾ كلام مستقل محذوف منه أحد الجزأين، إما الخبر وتقديره : أمثل، وهو قول مجاهد ومذهب سيبويه والخليل ؛ وإما المبتدأ وتقديره : الأمر أو أمرنا طاعة، أي الأمر المرضي لله طاعة. وقيل : هي حكاية قولهم، أي قالوا طاعة، ويشهد له قراءة أبيّ يقولون :﴿طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ﴾، وقولهم هذا على سبيل الهزء والخديعة. وقال قتادة : الواقف على :﴿فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ﴾ ابتداء وخبر، والمعنى :
٨١
أن ذلك منهم على جهة الخديعة. وقيل : طاعة صفة لسورة، أي فهي طاعة، أي مطاعة. وهذا القول ليس بشيء لحيلولة الفصل لكثير بين الصفة والموصوف. ﴿فَإِذَا عَزَمَ الامْرُ﴾ : أي جد، والعزم : لم الجد، وهو لأصحاب الأمر. واستعير للأمر، كما قال تعالى :﴿لَمِنْ عَزْمِ الامُورِ﴾. وقال الشاعر :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٩
قد جدت بهم الحرب فجدوا
والظاهر أن جواب إذاً قوله :﴿فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ﴾، كما تقول : إذا كان الشتاء، فلو جئتني لكسوتك. وقيل : الجواب محذوف تقديره : فإذا عزم الأمر هو أو نحوه، قاله قتادة. ومن حمل ﴿طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ﴾، على أنهم يقولون ذلك خديعة قدّرناه ﴿عَزَمَ الامْرُ﴾، فاقفوا وتقاضوا، وقدره أبو البقاء فأصدّق، ﴿فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ﴾ فيما زعموا من حرصهم على الجهاد، أو في إيمانهم، وواطأت قلوبهم فيه ألسنتهم، أو في قلوبهم ﴿طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ﴾. ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ﴾ : التفات اللذين في قلوبهم مرض، أقبل بالخطاب عليهم على سبيل التوبيخ وتوقيفهم على سوء مرتكبهم، وعسى تقدّم الخلاف في لغتها. وفي القراءة فيها، إذا اتصل بها ضمير الخطاب في سورة البقرة، واتصال الضمير بها لغة الحجاز، وبنو تميم لا يلحقون بها الضمير. وقال أبو عبد الله الرازي : وقد ذكروا أن عسى يتصل بها ضمير الرفع وضمير النصب، وأنها لا يتصل بها ضمير قال : وأما قول من قال : عسى أنت تقوم، وعسى أنا أقوم، فدون ما ذكر تطويل الذي فيه. انتهى. ولا أعلم أحداً من نقلة العرب ذكر انفصال الضمير بعد عسى، وفصل بين عسى وخبرها بالشرط، وهو أن توليتم. وقرأ الجمهور :﴿إِن تَوَلَّيْتُمْ﴾، ومعناه إن أعرضتم عن الإسلام. وقال قتادة : كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله ؟ ألم يسفكوا الدم الحرام، وقطعوا الأرحام، وعصوا الرحمن ؟ يشير إلى ما جرى من الفترة بعد زمان الرسول. وقال كعب، ومحمد بن كعب، وأبو العالية، والكلبي : إن توليتم، أي أمور الناس من الولاية ؛ ويشهد لها قراءة وليتم مبنياً للمفعول. وعلى هذا قيل : نزلت في بني هاشم وبني أمية. وعن النبي صلى الله عليه وسلّم :"إن توليتم" ؛ بضم التاء والواو وكسر اللام، وبها قرأ علي وأويس، أي إن وليتكم ولاية جور دخلتم إلى دنياهم دون إمام العدل. وعلى معنى إن توليتم بالتعذيب والتنكيل وإقفال العرب في جاهليتها وسيرتها من الغارات والثبات، فإن كانت ثمرتها الإفساد في الأرض وقطيعة الرحم. وقيل معناه : إن تولاكم الناس : وكلكم الله إليهم ؛ والأظهر أن ذلك خطاب للمنافقين في أمر القتال، وهو الذي سبقت الآيات فيه، أي إن أعرضتم عن امتثال أمر الله في القتال.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٩
﴿أَن تُفْسِدُوا فِى الارْضِ﴾ بعدم معونة أهل الإسلام، فإذا لم تعينوهم قطعتم ما بينكم وبينهم من صلة الرحم. ويدل على ذلك ﴿أَوالَا ِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾. فالآيات كلها في المنافقين. وهذا التوقع الذي في عسى ليس منسوباً إليه تعالى، لأنه عالم بما كان وما يكون، وإنما هو بالنسبة لمن عرف المنافقين، كأنه يقول لهم : لنا علم من حيث ضياعهم. هل يتوقع منكم إذا أعرضتم عن القتال أن يكون كذا وكذا ؟ وقرأ الجمهور : ، بالتشديد على التكثير، وأبو عمرو، في رواية، وسلام، ويعقوب، وأبان، وعصمة : بالتخفيف، مضارع قطع ؛ والحسن : وتقطعوا، بفتح التاء والقاف على إسقاط حرف الجر، أي أرحامكم، لأن تقطع لازم. ﴿بِاَايَاتِنَآ أُوالَا ِكَ﴾ إشارة إلى المرضى القلوب، ﴿فَأَصَمَّهُمْ﴾ عن سماع الموعظة، ﴿وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾ عن طريق الهدى. وقال الزمخشري : لعنهم الله لإفسادهم وقطعهم الأرحام، فمنعهم ألطافه، وخذلهم حتى عموا. انتهى. وهو على طريق الاعتزال. وجاء التركيب : فأصمهم، ولم يأت فأصم آذانهم ؛ وجاء : وأعمى أبصارهم، ولم يأت وأعمامهم. قيل : لأن الأذن لو أصمت لا تسمع الإبصار، فالعين لها مدخل في الرؤية، والأذن لها مدخل في السمع. انتهى. ولهذا جاء :﴿وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾، ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ﴾، ولم يأت : وعلى آذانهم، ولا يأتي : وجعل لكم الآذان.
٨٢
وحين ذكر الأذن، نسبت إليه الوقر، وهو دون الصمم، كما قال :﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِى ﴾.


الصفحة التالية
Icon