تكلم المنافقون وقالوا : لو كان محمد نبياً ودينه حق، ما صد عن البيت، ولكان فتح مكة. فأكذبهم الله تعالى، وأضاف عز وجل الفتح إلى نفسه، إشعاراً بأنه من عند الله، لا بكثرة عدد ولا عدد، وأكده بالمصدر، ووصفه بأنه مبين، مظهر لما تضمنه من النصر والتأييد. والظاهر أن هذا الفتح هو فتح مكة. وقال الكلبي، وجماعة : وهو المناسب لآخر السورة التي قبل هذه لما قال :﴿أَضْغَـانَكُمْ * هَـا أَنتُمْ هَـؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِى سَبِيلِ﴾ الآية، بين أنه فتح لهم مكة، وغنموا وحصل لهم أضعاف ما أنفقوا ؛ ولو بخلوا، لضاع عليهم ذلك، فلا يكون بخلهم إلا على أنفسهم. وأيضاً لما قال :﴿وَأَنتُمُ الاعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ﴾، بين برهانه بفتح مكة، فإنهم كانوا هم الأعليين. وأيضاً لما قال :﴿فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ﴾، كان فتح مكة حيث لم يلحقهم وهن، ولادعوا إلى صلح، بل أتى صناديد قريش مستأمنين مستسلمين مسلمين. وكانت هذه البشرى بلفظ الماضي، وإن كان لم يقع، لأن إخباره تعالى بذلك لا بد من وقوعه، وكون هذا الفتح هو فتح مكة بدأ به الزمخشري. وقال الجمهور : هو فتح الحديبية ؛ وقاله : السدي، والشعبي، والزهري. قال ابن عطية : وهو الصحيح. انتهى. ولم يكن فيه قتال شديد، ولكن ترام من القوم بحجارة وسهام. وعن ابن عباس : رموا المشركين حتى أدخلوهم ديارهم. وعن الكلبي : ظهروا عليهم حتى سألوه الصلح. قال الشعبي : بلغ الهدى محله، وظهرت الروم على فارس، ففرح المسلمون بظهور أهل الكتاب على المجوس، وأطعموا كل خيبر.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٨٧
وقال الزهري : لم يكن فتح أعظم من فتح الحديبية، اختلط المشركون بالمسلمين وسمعوا كلامهم، وتمكن الإسلام من قلوبهم، وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير، وكثر بهم سواد الإسلام. قال القرطبي : فما مضت تلك السنون إلا والمسلمون قد جاءوا إلى مكة في عشرة آلاف. وقال موسى بن عقبة : قال رجل منصرفهم من الحديبية : ما هذا الفتح ؟ لقد صدونا عن البيت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم :"بل هو أعظم الفتوح، قد رضي المشركون أن يدفعوكم عن بلادكم بالراح، ويسألونكم القضية، ويرغبوا إليكم في الأمان، ورأوا منكم ما كرهوا". وكان في فتحها آية عظيمة وذلك أنه نزح ماؤها حتى لم يبق فيها قطرة، فتمضمض رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ثم مجه فيها، فدرت بالماء حتى شرب جميع من كان معه. وقيل : فجاش الماء حتى امتلأت، ولم ينفد ماؤها بعد.
وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف يكون فتحاً، وقد أحصروا فنحروا وحلقوا بالحديبية ؟ قلت : كان ذلك قبل الهدنة، فلما طلبوها وتمت كان فتحاً مبنياً. انتهى. وفي هذا الوقت اتفقت بيعة الرضوان، وهو الفتح الأعظم، قاله جابر بن عبد الله والبراء بن عازب، وفيه استقبل فتح خيبر وامتلأت أيدي المؤمنين خيراً، ولم يفتحها إلا أهل الحديبية، ولم يشركهم أحد من المتخلفين عن الحديبية. وقال مجاهد : هو فتح خيبر. وفي حديث مجمع بن جارية : شهدنا الحديبية، فلما انصرفنا، إذ الناس يهزون الأباعر، فقيل : ما بال الناس ؟ قالوا : أوحى الله للنبي صلى الله عليه وسلّم، قال : فخرجنا نرجف، فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلّم عند كراع الغميم، فلما اجتمع الناس، قرأ النبي صلى الله عليه وسلّم :﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا﴾. قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه : أوفتح هو يا رسول الله ؟ قال :"نعم، والذي نفسي بيده إنه لفتح". فقسمت خيبر على أهل الحديبية، ولم يدخل فيها أحد إلا من شهد الحديبية. وقال الضحاك : الفتح : حصول المقصود بغير قتال، وكان الصلح من الفتح، وفتح مكة بغير قتال، فتناول الفتحين : الحديبية ومكة. وقيل : فتح الله تعالى له بالإسلام والنبوّة والدعوة بالحجة والسيف، ولا فتح أبين منه وأعظم، وهو رأس الفتوح كلها، إذ لا فتح من فتوح الإسلام إلا وهو تحته ومتشعب منه. وقيل : قضينا لك قضاءً بيناً على أهل مكة أن تدخلها أنت وأصحابك من قابل، ليطوفوا بالبيت من الفتاحة، وهي الحكومة، وكذا عن قتادة.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٨٧
قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جعل
٨٩