فتح مكة علة للمغفرة ؟ قلت : لم يجعل علة للمغفرة، ولكن لاجتماع ما عدد من الأمور الأربعة وهي : المغفرة، وإتمام النعمة، وهداية الصراط المستقيم، والنصر العزيز ؛ كأنه قيل : يسرنا لك فتح مكة، ونصرناك على عدوّك، لنجمع لك بين عز الدارين وأغراض العاجل والآجل. ويجوز أن يكون فتح مكة من حيث أنه جهاد للعدوّ، وسبب للغفران والثواب والفتح والظفر بالبلد عنوة أو صلحاً، بحرب أو بغير حرب، لأنه منغلق ما لم يظفر، فإذا ظفر به وحصل في اليد فقد فتح. انتهى. وقال ابن عطية : المراد هنا : أن الله فتح لك لكي يجعل ذلك علامة لغفرانه لك، فكأنها صيرورة، ولهذا قال عليه السلام :"لقد أنزلت عليّ الليلة سورة هي أحب إلييّمن الدنيا". انتهى. ورد بأن لام القسم لا تكسر ولا ينصب بها، ولو جاز بحال لجاز : ليقوم زيد، في معنى : ليقومّن زيد. انتهى. أما الكسر، فقد علل بأنه شبهت تشبيهاً بلام كي، وأما النصب فله أن يقول : ليس هذا نصباً، لكنها الحركة التي تكون مع وجود النون، بقيت بعد حذفها دلالة على الحذف، وبعد هذا، فهذا القول ليس بشيء، إذ لا يحفظ من لسانهم : والله ليقوم، ولا بالله ليخرج زيد، بكسر اللام وحذف النون، وبقاء الفعل مفتوحاً. ﴿وَيُتِمُّ نِعْمَتَه عَلَيْكَ﴾، بإظهارك على عدوّك ورضاه عنك، وبفتح مكة والطائف وخيبر ﴿نَصْرًا عَزِيزًا﴾، أي بالظفر والتمكن من الأعداء بالغنيمة والأسر والقتل نصراً فيه عز ومنعة. وأسندت العزة إليه مجازاً، والعزيز حقيقة هو المنصور صلى الله عليه وسلّم. وأعيد لفظ الله في :﴿وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا﴾، لما بعد عن ما عطف عليه، إذ في الجملتين قبله ضمير يعود على الله، وليكون المبدأ مسنداً إلى الاسم الظاهر والمنتهى كذلك. ولما كان الغفران وإتمام النعمة والهداية والنصر يشترك في إطلاقها الرسول صلى الله عليه وسلّم وغيره بقوله تعالى :﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ لِمَن يَشَآءُ﴾، وقوله :﴿إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ﴾ ؛ وكان الفتح لم يبق لأحد إلا للرسول صلى الله عليه وسلّم، أسنده تعالى إلى نون العظمة تفخيماً لشأنه، وأسند تلك الأشياء الأربعة إلى الاسم الظاهر، واشتركت الخمسة في الخطاب له صلى الله عليه وسلّم، تأنيساً له وتعظيماً لشأنه. ولم يأت بالاسم الظاهر، لأن في الإقبال على المخاطب ما لا يكون في الاسم الظاهر.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٨٧
﴿هُوَ الَّذِى أَنزَلَ السَّكِينَةَ﴾ : وهي الطمأنينة والسكون ؛ قيل : بسبب الصلح والأمن، فيعرفون فضل الله عليهم بتيسير الأمن بعد الخوف، والهدنة بعد القتال، فيزدادوا يقيناً إلى يقينهم. وقيل : السكينة إشارة إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلّم من الشرائع، ليزدادوا إيماناً بها إلى إيمانهم، وهو التوحيد ؛ روي معناه عن ابن عباس. وقيل : الوقار والعظمة لله ولرسوله. وقيل : الرحمة ليتراحموا، وقاله ابن عباس. ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ﴾ : إشارة إلى تسليم الأشياء إليه تعالى، ينصر من شاء، وعلى أي وجه شاء، ومن جنده السكينة ثبتت قلوب المؤمنين. ﴿لِّيُدْخِلَ﴾ : هذه اللام تتعلق، قيل : بإنا فتحنا لك. وقيل : بقوله :﴿لِيَزْدَادُوا ﴾. فإن قيل :﴿وَيُعَذِّبَ﴾ عطف عليه، والازدياد لا يكون سبباً لتعذيب الكفار، أجيب عن هذا بأنه ذكر لكونه مقصوداً للمؤمن، كأنه قيل : بسبب ازديادكم في الأيمان يدخلكم الجنة ويعذب الكفار بأيديكم في الدنيا. وقيل : بقوله :﴿وَيَنصُرَكَ اللَّهُ﴾ : أي بالمؤمنين. وهذه الأقوال فيها بعد. وقال الزمخشري :﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ﴾، يسلط بعضها على بعض، كما يقتضيه علمه وحكمته. ومن قضيته أن صلح قلوب المؤمنين بصلح الحديبية، وإن وعدهم أن يفتح لهم، وإنما قضى ذلك ليعرف المؤمنون نعمة الله فيه ويشكرون، فيستحقوا الثواب، فيثيبهم، ويعذب الكافرين والمنافقين، لما غاظهم من ذلك وكرهوه. انتهى. ولا يظهر من كلامه هذا ما تتعلق به اللام ؛ والذي يظهر أنها تتعلق بمحذوف يدل عليه الكلام،
٩٠
وذلك أنه قال :﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ﴾. كان في ذلك دليل على أنه تعالى يبتلي يتلك الجنود من شاء، فيقبل الخير من قضى له بالخير، والشر من قضى له بالشر. ﴿لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ جنات، ويعذب الكفار. فاللام تتعلق بيبتلي هذه، وما تعلق بالابتلاء من قبول الإيمان والكفر. ﴿وَيُكَفِّرْ﴾ : معطوف على ليدخل، وهو ترتيب في الذكر لا ترتيب في الوقوع. وكان التبشير بدخول الجنة أهم، فبدىء به. ولما كان المنافقون أكثر ضرراً على المسلمين من المشركين، بدىء بذكرهم في التعذيب.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٨٧


الصفحة التالية
Icon