قال مجاهد وغيره : ودخل كلام بعضهم في بعض. ﴿الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الاعْرَابِ﴾ : هم جهينة، ومزينة، وغفار، وأشجع، والديل، وأسلم. استنفرهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمراً، ليخرجوا معه حذراً من قريش أن يعرضوا له بحرب، أو يصدوه عن البيت ؛ وأحرم هو صلى الله عليه وسلّم، وساق معه الهدى ليعلم أنه لا يريد حرباً، ورأى أولئك الأعراب أنه يستقبل عدواً عظيماً من قريش وثقيف وكنانة والقبائل والمجاورين بمكة، وهو الأحابيش ؛ ولم يكن الإيمان تمكن من قلوبهم، فقعدوا عن
٩٢
النبي صلى الله عليه وسلّم، وتخلفوا وقالوا : لن يرجع محمد ولا أصحابه من هذه السفرة، ففضحهم الله عز وجل في هذه الآية، وأعلم رسوله صلى الله عليه وسلّم بقولهم واعتذارهم قبل أن يصل إليهم، فكان كذلك.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٨٧
﴿شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا ﴾ : وهذا اعتلال منهم عن تخلفهم، أي لم يكن لهم من يقوم بحفظ أموالهم وأهليهم غيرهم، وبدؤا بذكر الأموال، لأن بها قوام العيشذ ؛ وعطفوا الأهل، لأنهم كانوا يحافظون على حفظ الأهل أكثر من حفظ المال. وقرىء : شغلتنا، بتشديد الغين، حكاه الكسائي، وهي قراءة إبراهيم بن نوح بن باذان، عن قتيبة. ولما علموا أن ذلك التخلف عن الرسول كان معصية، سألوا أن يستغفر لهم. ﴿يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ﴾ : الظاهر أنه راجع إلى الجملتين المقولتين من الشغل وطلب الاستغفار، لأن قولهم : شغلتنا، كذب ؛ وطلب الاستغفار : خبث منهم وإظهار أنهم مؤمنون عاصون. وقال الطبري : هو راجع إلى قولهم : فاستغفر لنا، يريد أنهم قالوا ذلك مصانعة من غير توبة ولا ندم.
﴿قُلْ فَمَن يَمْلِكُ﴾ : أي من يمنعكم من قضاء الله ؟ ﴿إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا﴾ : من قتل أو هزيمة، ﴿أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعَا ﴾، من ظفر وغنيمة ؟ أي هو تعالى المتصرف فيكم، وليس حفظكم أموالكم وأهليكم بمانع من ضياعها إذا أراده الله تعالى. وقرأ الجمهور : ضراً، بفتح الضاد ؛ والإخوان : بضمها، وهما لغتان. ثم بين تعالى لهم العلة في تخلفهم، وهي ظنهم أن الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه لا يرجعون إلى أهليهم. وتقدم الكلام على أهل، وكيف جمع بالواو والنون في قوله :﴿مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ﴾. وقرأ عبد الله : إلى أهلهم، بغير ياء ؛ وزين، قراءة الجمهور مبنياً للمفعول، والفاعل هو الله تعالى. وقيل غيره ممن نسب إليه التزيين مجازاً. وقرىء : وزين مبنياً للفاعل. ﴿وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ﴾ : احتمل أن يكون هو الظن السابق، وهو ظنهم أن لا ينقلبوا، ويكون قد ساءهم ذلك الظن وأحزنهم حيث أخلف ظنهم. ويحتمل أن يكون غيره لأجل العطف، أي ظننتم أنه تعالى يخلف وعده في نصر دينه وإعزاز رسوله صلى الله عليه وسلّم. ﴿بُورًا﴾ : هلكى، والظاهر أنه مصدر كالهلك، ولذلك وصف به المفرد المذكر، كقول ابن الزبعري :
يا رسول المليك إن لسانيراتق ما فتقت إذ أنا بور
والمؤنث، حكى أبو عبيدة : امرأة بور، والمثنى والمجموع. وقيل : يجوز أن يكون جمع بائر، كحائل، وحول هذا في المعتل، وباذل وبذل في الصحيح، وفسر بوراً : بفاسدين هلكى. وقال ابن بحر : أشرار. واحتمل وكنتم، أي يكون المعنى : وصرتم بذلك الظن، وأن يكون وكنتم على بابها، أي وكنتم في الأصل قوماً فاسدين، أي الهلاك سابق لكم على ذلك الظن. ولما أخبر تعالى أنهم قوم بور، ذكر ما يدل على أنهم ليسوا بمؤمنين فقال :﴿وَمَن لَّمْ يُؤْمِنا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾، فهو كافر جزاؤه السعير. ولما كانوا ليسوا مجاهدين بالكفر، ولذلك اعتذروا وطلبوا الاستغفار، مزج وعيدهم وتوبيخهم ببعض الإمهال والترجئة. وقال الزمخشري :﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ﴾، يدبره تدبير قادر حكيم، فيغفر ويعذب بمشيئته، ومشيئته تابعة لحكمته، وحكمته المغفرة للتائب وتعذيب المصر. ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾، رحمته سابقة لرحمته، حيث يكفر السيئات باجتناب الكبائر بالتوبة. انتهى. وهو على مذهب الاعتزال.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٨٧


الصفحة التالية
Icon