وسماه حينئذ سيف الله، في جملة من الناس، ففروا أمامهم حتى أدخلوهم بيوت مكة، وأسروا منهم جملة، وسيقوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلّم، فمنّ عليهم وأطلقهم. وقال قتادة : كان ذلك بالحديبية عند معسكر، وهو ببطن مكة. وعن أنس : هبط ثمانون رجلاً من أهل مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلّم من جبل التنعيم مسلحين يريدون غرته، فأخذناهم فاستحياهم. وفي حديث عبد الله بن معقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم دعا عليهم، فأخذ الله أبصارهم، فقال لهم :"هل جئتم في عهد ؟ وهل جعل لكم أحد أماناً" ؟ قالوا : اللهم لا، فخلي سبيلهم. وقال الزمخشري كان يعني هذا الكف يوم الفتح، وبه استشهد أبو حنيفة، على أن مكة فتحت عنوة لا صلحاً. وقيل : كان ذلك في غزوة الحديبية، لما روي أن عكرمة بن أبي جهل خرج في خمسمائة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم من هزمه وأدخله حيطان مكة. وعن ابن عباس : أظهر الله المسلمين عليهم بالحجارة حتى أدخلوهم البيوت. انتهى. وقرأ الجمهور : بما تعملون، على الخطاب ؛ وأبو عمرو : بالياء، وهو تهديد للكفار.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٨٧
﴿هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ : يعني أهل مكة. قال ابن خالوية : يقال الهدي والهدى والهداء، ثلاث لغات. انتهى. وقرأ الجمهور : الهدي، بسكون الدال، وهي لغة قريش ؛ وابن هرمز، والحسن، وعصمة عن عاصم، واللؤلؤي، وخارجة عن أبي عمرو : والهدي، بكسر الدال وتشديد الياء، وهما لغتان، وهو معطوف على الضمير في صدّوكم ؛ ومعكوفاً : حال، أي محبوساً. عكفت الرجل عن حاجته : حبسته عنها. وأنكر أبو عليّ تعدية عكف، وحكاه ابن سيدة والأزهري وغيرهما. وهذا الحبس يجوز أن يكون من المشركين بصدهم، أو من جهة المسلمين لتردّدهم ونظرهم في أمرهم. وقرأ الجعفي، عن أبي عمرو : والهدي، بالجر معطوفاً على المسجد الحرام : أي وعن نحر الهدي. وقرأ : بالرفع على إضمار وصد الهدي، وكان خرج عليه ومعه مائة بدنة، قاله مقاتل. وقيل : بسبعين، وكان الناس سبعمائة رجل، فكانت البدنة عن عشرة، قاله المسور بن مخرمة وأبيّ بن الحكم.
﴿أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُا﴾، قال الشافعي : الحرم، وبه استدل أبو حنيفة أن محل هدي المحصر الحرم، لا حيث أحصر. وقال الفراء : حيث يحل نحره، و﴿أَن يَبْلُغَ﴾ : يحتمل أن يتعلق بالصد، أي وصدوا الهدى، وذلك على أن يكون بدل اشتمال، أي وصدوا بلوغ الهدي محله، أو على أنه مفعول من أجله، أي كراهة أن يبلغ محله. ويحتمل أن يتعلق بمعكوفاً، أي محبوساً لأجل أن يبلغ محله، فيكون مفعولاً من أجله، ويكون الحبس من المسلمين. أو محبوساً عن أن يبلغ محله، فيكون الحبس من المشركين، وكان بمكة قوم من المسلمين مختلطين بالمشركين، غير متميزين عنهم، ولا معروفي الأماكن ؛ فقال تعالى : ولولا كراهة أن يهلكوا أناساً مؤمنين بين ظهراني المشركين وأنتم غير عارفين لهم، فيصيبكم بإهلاكهم مكروه ومشقة، ما كف أيديكم عنهم ؛ وحذف جواب لولا لدلالة الكلام عليه. قال الزمخشري : ويجوز أن يكون :﴿لَوْ تَزَيَّلُوا ﴾، كالتكرير للولا رجال مؤمنون، لمرجعهما إلى معنى واحد، ويكون :﴿لَعَذَّبْنَا﴾، هو الجواب. انتهى. وقوله : لمرجعهما إلى معنى واحد ليس بصحيح، لأن ما تعلق به لولا الأولى غير ما تعلق به الثانية. فالمعنى في الأولى : ولولا وطء قوم مؤمنين، والمعنى في الثانية : لو تميزوا من الكفار ؛ وهذا معنى مغاير للأول مغايرة ظاهرة. و﴿ءَانٍ﴾ : بدل اشتمال من رجال وما بعده. وقيل : بدل من الضمير في ﴿لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ﴾، أي لم تعلموا وطأتهم، أي أنه وطء مؤمنين. وهذا فيه بعد. والوطء : الدوس، وعبر به عن الإهلاك بالسيف وغيره. قال الشاعر :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٨٧
ووطئتنا وطأ على حنقوطء المقيد ثابت الهرم
وفي الحديث :"اللهم اشدد وطأتك على مضر". و﴿لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ﴾ : صفة لرجال ونساء غلب فيها المذكر ؛ والمعنى :
٩٨
لم تعرفوا أعيانهم وأنهم مؤمنون. وقال ابن زيد : المعرة : المأثم. وقال ابن إسحاق : الدية. وقال ابن عطية : وهذا ضعيف، لأنه لا إثم ولا دية في قتل مؤمن مستور الإيمان بين أهل الحرب. وقال الطبري : هي الكفارة. وقال القاضي منذر بن سعيد : المعرة : أن يعنفهم الكفار، ويقولون قتلوا أهل دينهم. وقيل : الملامة وتألم النفس منه في باقي الزمن. ولفق الزمخشري من هذه الأقوال سؤالاً وجواباً على عادته في تلفق كلامه من أقوالهم وإيهامه أنها سؤالات وأجوبة له فقال : فإن قلت : أي معرة تصيبهم إذا قتلوهم وهم لا يعلمون ؟ قلت : يصيبهم وجوب الدية والكفارة، وسوء مقالة المشركين أنهم فعلوا بأهل دينهم ما فعلوا بنا من غير تمييز، والمأثم إذا جرى منهم بعض التقصير. انتهى.