وقال أبو عبد الله الرازي : في هذه الآية لطائف معنوية، وهو أنه تعالى أبان غاية البون بين الكافر والمؤمن. باين بين الفاعلين، إذ فاعل جعل هو الكفار، وفاعل أنزل هو الله تعالى ؛ وبين المفعولين، إذ تلك حمية، وهذه سكينة ؛ وبين الإضافتين، أضاف الحمية إلى الجاهلية، وأضاف السكينة إلى الله تعالى. وبين الفعل جعل وأنزل ؛ فالحمية مجعولة في الحال في العرض الذي لا يبقى، والسكينة كالمحفوظ في خزانة الرحمة فأنزلها. والحمية قبيحة مذمومة في نفسها وازدادت قبحاً بالإضافة إلى الجاهلية، والسكينة حسنة في نفسها وازدادت حسناً بإضافتها إلى الله تعالى. والعطف في فأنزل بالفاء لا بالواو يدل على المقابلة، تقول : أكرمني فأكرمته، فدلت على المجازاة للمقابلة، ولذلك جعل فأنزل. ولما كان الرسول صلى الله عليه وسلّم هو الذي أجاب أولاً إلى الصلح، وكان المؤمنون عازمين على القتال، وأن لا يرجعوا إلى أهلهم إلا بعد فتح مكة أو النحر في المنحر، وأبوا إلا أن يكتبوا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلّم وباسم الله، قال تعالى :﴿عَلَى رَسُولِهِ﴾. ولما سكن هو صلى الله عليه وسلّم للصلح، سكن المؤمنون، فقال :﴿وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾. ولما كان المؤمنون عند الله تعالى، ألزموا تلك الكلمة، قال تعالى :﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَـاكُمْ﴾، وفيه تلخيص، وهو كلام حسن. قوله عز وجل :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٨٧
﴿لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّءْيَا بِالْحَقِّا لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَا فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَالِكَ فَتْحًا قَرِيبًا * هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَه بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَه عَلَى الدِّينِ كُلِّهِا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا * مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُا أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُم تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ﴾.
١٠٠
رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبل خروجه إلي الحديبية. وقال مجاهد : كانت الرؤيا بالحديبية أنه وأصحابه دخلوا مكة آمنين، وقد حلقوا وقصروا. فقص الرؤيا على أصحابه، ففرحوا واستبشروا وحسبوا أنهم داخلوها في عامهم، وقالوا : إن رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلّم حق. فلما تأخر ذلك، قال عبد الله أبيّ، وعبد الله بن نفيل، ورفاعة بن الحرث : والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا المسجد الحرام. فنزلت. وروي أن رؤياه كانت : أن ملكاً جاءه فقال له :﴿لَتَدْخُلُنَّ﴾. ومعنى ﴿صَدَقَ اللَّهُ﴾ : لم يكذبه، والله تعالى منزه عن الكذب وعن كل قبيح. وصدق يتعدى إلى اثنين، الثاني بنفسه وبحرف الجر. تقول : صدقت زيداً الحديث، وصدقته في الحديث ؛ وقد عدها بعضهم في أخوات استغفر وأمر. وقال الزمخشري : فحذف الجار وأوصل الفعل لقوله تعالى :﴿صَدَقُوا مَا عَـاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾. انتهى. فدل كلامه على أن أصله حرف الجر. وبالحق متعلق بمحذوف، أي صدقاً ملتبساً بالحق. ﴿لَتَدْخُلُنَّ﴾ : اللام جواب قسم محذوف، ويبعد قول من جعله جواب بالحق ؛ وبالحق قسم لا تعلق له بصدق، وتعليقه على المشيئة، قيل : لأنه حكاية قول الملك للرسول صلى الله عليه وسلّم، قاله ابن كيسان. وقيل : هذا التعليق تأدب بآداب الله تعالى، وإن كان الموعود به متحقق الوقوع، حيث قال تعالى :﴿وَلا تَقُولَنَّ لِشَا ىْءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذَالِكَ غَدًا * إِلا أَن يَشَآءَ اللَّهُ﴾. وقال ثعلب : استثنى فيما يعلم ليستثنى الخلق فيما لا يعلمون. وقال الحسن بن الفضل : كأن الله علم أن بعض الذين كانوا بالحديبية يموت، فوقع الاستثناء لهذا المعنى. وقال أبو عبيدة : وقوم إن بمعنى إذ، كما قيل في قوله :﴿وَإِنَّآ إِن شَآءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ﴾. وقيل : هو تعليق في قوله :﴿اللَّهُ ءَامِنِينَ﴾، لا لأجل إعلامه بالدخول، فالتعليق مقدم على موضعه. وهذا القول لا يخرج التعليق عن كونه معلقاً على واجب، لأن الدخول والأمن أخبر بهما تعالى، ووقعت الثقة بالأمرين وهما الدخول والأمن الذي هو قيد في الدخول. و﴿ءَامِنِينَ﴾ : حال مقارنة للدخول. ومحلقين ومقصرين : حال مقدرة ؛ ولا تخافون : بيان لكمال الأمن بعد تمام الحج.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٨٧
ولما نزلت هذه الآية علم المسلمون أنهم يدخلونها فيما يستأنف، واطمأنت قلوبهم ودخلوها معه عليه الصلاة والسلام في ذي القعدة سنة سبع وذلك ثلاثة أيام هو وأصحابه، وصدقت رؤياه صلى الله عليه وسلّم.