وسلاحاً، فمن أنكر علينا فليأت بقول هو أحسن من قولنا، وفعل هو أحسن من فعلنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم، لثابت بن قيس بن شماس، وكان خطيبه :"قم فأجبه"، فقال :"الحمد لله أحمده وأستعينه وأومن به وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، دعا المهاجرين من بني عمه أحسن الناس وجوهاً وأعظمهم أحلاماً فأجابوه، والحمد لله الذي جعلنا أنصار دينه ووزراء رسوله وعزاً لدينه، فنحن نقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا أله إلا الله، فمن قالها منع نفسه وماله، ومن أباها قتلناه وكان رغمه علينا هيناً، أقول قولي هذا وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات". وقال الزبرقان لشاب : قم فقل أبياتاً تذكر فيها فضل قومك، فقال :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٠٣
نحن الكرام فلا حي يعادلنافينا الرؤوس وفينا يقسم الربع
ونطعم النفس عند القحط كلهممن السيف إذا لم يؤنس الفزع
إذا أبينا فلا يأبى لنا أحدإنا كذلك عند الفخر نرتفع
فأمر النبي صلى الله عليه وسلّم، فدعا حسان بن ثابت، فقال له :"أعدلي قولك فأسمعه"، فأجابه :
إن الذوائب من فهر وإخوتهمقد شرعوا سنة للناس تتبع
يوصي بها كل من كانت سريرتهتقوى الإله فكل الخير يطلع
ثم قال حسان في أبيات :
نصرنا رسول الله والدين عنوةعلى رغم غاب من معد وحاضر
بضرب كأنواع المخاض مشاشةوطعن كأفواه اللقاح المصادر
وسل أحداً يوم استقلت جموعهمبضرب لنا مثل الليوث الخوادر
ألسنا نخوض الموت في حومة الوغىإذا طاب ورد الموت بين العساكر
فنضرب هاماً بالذراعين ننتميإلى حسب من جذع غسان زاهر
فلولا حياء الله قلنا تكرماعلى الناس بالحقين هل من منافر
فأحياؤنا من خير من وطىء الحصا وأمواتنا من خير أهل المقابر قال : فقام الأقرع بن حابس فقال : إني والله لقد جئت لأمر، وقد قلت شعراً فاسمعه، وقال :
أتيناك كيما يعرف الناس فضلناإذا خالفونا عند ذكر المكارم
وإنا رؤوس الناس في كل غارةتكون بنجد أو بأرض التهائم
وإن لنا المرباع في كل معشروأن ليس في أرض الحجاز كدارم
فقال النبي صلى الله عليه وسلّم لحسان :"قم فأجبه"، فقام وقال :
بني درام لا تفخروا إن فخركميصير وبالاً عند ذكر المكارم
هبلتم علينا تفخرون وأنتملنا خول من بين ظئر وخادم
فقال النبي صلى الله عليه وسلّم :"لقد كنت غنياً يا أخا دارم أن يذكر منك ما ظننت أن الناس قد لتنوه". فكان قوله عليه الصلاة والسلام أشد عليهم من جميع ما قاله حسان، ثم رجع حسان إلى شعره فقال :
فإن كنتم جئتم لحقن دمائكموأموالكم أن تقسموا في المقاسم
فلا تجعلوا الله نداً وأسلمواولا تفخروا عند النبي بدارم
وإلا ورب البيت قد مالت القناعلى هامكم بالمرهفات الصوارم
فقال الأقرع بن حابس : والله ما أدري ما هذا الأمر، تكلم خطيبنا، فكان خطيبهم أحسن قولاً، وتكلم
١٠٧
شاعرنا، فكان شاعرهم أشعر وأحسن قولاً، ثم دنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم :"ما يضرك ما كان قبل هذا"، ثم أعطاهم وكساهم.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٠٣
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة، وذلك أن المناداة من وراء الحجرات فيها رفع الصوت وإساءة الأدب، والله قد أمر بتوقير رسوله وتعظيمه. والوراء : الجهة التي يواريها عنك الشخص من خلف أو قدام، ومن لابتداء الغاية، وإن المناداة نشأت من ذلك المكان. وقال الزمخشري : فإن قلت : أفرق بين الكلامين، بين ما تثبت فيه وما تسقط عنه. قلت : الفرق بينهما : أن المنادى والمنادي في أحدهما يجوز أن يجمعهما الوراء، وفي الثاني لا يجوز، لأن الوراء تصير بدخول من مبتدأ الغاية، ولا يجتمع على الجهة الواحدة أن يكون مبتدأ ومنتهى لفعل واحد. والذي يقول : ناداني فلان من وراء الدار، لا يريد وجه الدار ولا دبرها، ولكن أي قطر من أقطارها، كان مطلقاً بغير تعين ولا اختصاص. انتهى. وقد أثبت أصحابنا في معاني من أنها تكون لابتداء الغاية وانتهائها في فعل واحد، وأن الشيء الواحد يكون محلاً لهما. وتأولوا ذلك على سيبويه وقالوا من ذلك قولهم : أخذت الدرهم من زيد، فزيد محل لابتداء الأخذ منه وانتهائه معاً. قالوا : فمن تكون لابتداء الغاية فقط في أكثر المواضع، وفي بعض المواضع لابتداء الغاية وانتهائها معاً. وهذه المناداة التي أنكرت، ليس إنكارها لكونها وقعت في إدبار الحجرات أو في وجوهها، وإنما أنكر ذلك لأنهم نادوه من خارج، مناداة الأجلاف التي ليس فيها توقير، كما ينادي بعضهم بعضاً.