والحجرات : منازل الرسول صلى الله عليه وسلّم، وكانت تسعة. والحجرة : الرفعة من الأرض المحجورة بحائط يحوط عليها. وحظيرة الإبل تسمى حجرة، وهي فعلة بمعنى مفعولة، كالغرفة والقبضة. وقرأ الجمهور : الحجرات، بضم الجيم اتباعاً للضمة قبلها ؛ وأبو جعفر، وشيبة : بفتحها ؛ وابن أبي عبلة : بإسكانها، وهي لغى ثلاث، في كل فعلة بشرطها المذكور في علم النحو. والظاهر أن من صدر منه النداء كانوا جماعة. وذكر الأصم أن من ناداه كان الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن، فإن صح ذلك، كان الإسناد إلى الجماعة، لأنهم راضون بذلك ؛ وإذا كانوا جماعة، احتمل أن يكونوا تفرقوا، فنادى بعض من وراء هذه الحجرة، وبعض من وراء هذه، أو نادوه مجتمعين من وراء حجرة حجرة، أو كانت الحجرة واحدة، وهي التي كان فيها الرسول صلى الله عليه وسلّم، وجمعت إجلالاً له ؛ وانتفاء العقل عن أكثرهم دليل على أن فيهم عقلاً. وقال الزمخشري : ويحتمل أن يكون الحكم بقلة العقلاء فيهم قصداً إلى نفي أن يكون فيهم من يعقل، فإن القلة تقع موقع النفي في كلامهم. انتهى. وليس في الآية الحكم بقلة العقل منطوقاً به، فيحتمل النفي، وإنما هو مفهوم من قوله :﴿أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾. والنفي المحض المستفاد إنما هو من صريح لفظ التقليل، لا من المفهوم، فلا يحمل قوله :﴿وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ﴾ النفي المحض للشكر، لأن النفي لم يستفد من صريح التقليل. وهذه الآية سجلت على الذين نادوه بالسفه والجهل.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٠٣
وابتدأ أول السورة بتقديم الأمور التي تنتمي إلى الله تعالى ورسوله على الأمور كلها، ثم على ما نهى عنه من التقديم بالنهي عن رفع الصوت والجهر، فكان الأول بساطاً للثاني، ثم يلي بما هو ثناء على الذين امتنعوا من ذلك، فغضوا أصواتهم دلالة على عظم موقعه عند الله تعالى. ثم جيء على عقبه بما هو أفظع، وهو الصياح برسول الله صلى الله عليه وسلّم في حال خلوته ببعض حرمه من وراء الجدار، كما يصاح بأهون الناس، ليلبيه على فظاعة ما جسروا عليه، لأن
١٠٨
من رفع الله قدره عن أن يجهر له بالقول، كان صنيع هؤلاء معه من المنكر المتفاحش. ومن هذا وأمثاله تقتبس محاسن الآداب. كما يحكى عن أبي عبيد ومحله من العلم والزهد وثقة الرواية ما لا يخفى أنه قال : ما دققت باباً على عالم قط حتى يخرج في وقت خروجه.
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ﴾، قال الزمخشري :﴿أَنَّهُمْ صَبَرُوا ﴾ في موضع الرفع على الفاعلية، لأن المعنى : ولو ثبت صبرهم. انتهى، وهذا ليس مذهب سيبويه، أن أن وما بعدها بعد لو في موضع مبتدأ، لا في موضع فاعل. ومذهب المبرد أنها في موضع فاعل بفعل محذوف، كما زعم الزمخشري. واسم كان ضمير يعود على المصدر المفهوم من صبروا، أي لكان هو، أي صبرهم خيراً لهم. وقال الزمخشري : في كان، إما ضمير فاعل الفعل المضمر بعد لو. انتهى، لأنه قدر أن وما بعدها فاعل بفعل مضمر، فأعاد الضمير على ذلك الفاعل، وهو الصبر المنسبك من أن ومعمولها خيراً لهم في الثواب عند الله، وفي انبساط نفس الرسول صلى الله عليه وسلّم وقضائه لحوائجهم. وقد قيل : إنهم جاءوا في أسارى، فأعتق رسول الله صلى الله عليه وسلّم النصف وفادى على النصف، ولو صبروا لأعتق الجميع بغير فداء. وقيل : لكان صبرهم أحسن لأدبهم. ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، لن يضيق غفرانه ورحمته عن هؤلاء إن تابوا وأنابوا.
﴿رَّحِيمٌ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُا بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمَا بِجَهَـالَةٍ﴾ الآية، حدث الحرث بن ضرار قال : قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فدعاني إلى الإسلام، فأسلمت، وإلى الزكاة فأقررت بها، فقلت : أرجع إلى قومي وأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة، فمن أجابني جمعت زكاته، فترسل من يأتيك بما جمعت. فلما جمع ممن استجاب له، وبلغ الوقت الذي أراد الرسول صلى الله عليه وسلّم أن يبعث إليه، واحتبس عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قال لسروات قومه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقت لي وقتاً إلى من يقبض الزكاة، وليس من رسول الله صلى الله عليه وسلّم الخلف، ولا أرى حبس الرسول إلا من سخطه. فانطلقوا بها إليه، وكان عليه السلام البعث بعث الوليد بن الحرث، ففرق، فرجع فقال : منعني الحرث الزكاة وأراد قتلي، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى الحرث، فاستقبل الحرث البعث وقد فصل من المدينة، فقالوا : هذا الحرث، إلى من بعثتم ؟ قالوا : إليك قال : ولم ؟ فقالوا : بعث إليك الوليد، فرجع وزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله، قال : لا والذي بعث محمداً بالحق ما رأيت رسولك، ولا أتاني، وما أقبلت إلا حين احتبس عليّ رسولك خشية أن يكون سخطة من الله ورسوله، قال : فنزلت هذه الآية.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٠٣