قوله عز وجل :﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِى الْبِلَـادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ * إِنَّ فِى ذَالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَه قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَـارَ السُّجُودِ * وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّا ذَالِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ * إِنَّا نَحْنُ نُحْىِا وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الارْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَالِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ * نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَا وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍا فَذَكِّرْ بِالْقُرْءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾.
أي كثيراً. ﴿أَهْلَكْنَا﴾ : أي قبل قريش. ﴿هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا﴾، لكثرة قوتهم وأموالهم. وقرأ الجمهور :﴿فَنَقَّبُوا ﴾، بفتح القاف مشددة، والظاهر أن الضمير في نقبوا عائد على كم، أي دخلوا البلاد من أنقابها. والمعنى : طافوا في البلاد. وقيل : نقروا وبحثوا، والتنقيب : التنقير والبحث. قال امرؤ القيس في معنى التطواف :
وقد نقبت في الآفاق حتىرضيت من الغنيمة بالإياب
وروي : وقد طوفت. وقال الحارث بن خالدة :
نقبوا في البلاد من الموتوجالوا في الأرض كل مجال
وفنقبوا متسبب عن شدة بطشهم، فهي التي أقدرتهم على التنقيب وقوتهم عليه. ويجوز أن يعود الضمير في فنقبوا على قريش، أي فنقبوا في أسفارهم في بلاد القرون، فهل رأوا محيصاً حتى يؤملوه لأنفسهم ؟ ويدل على عود الضمير على أهل مكة قراءة ابن عباس، وابن يعمر، وأبي العالية، ونصر بن يسار، وأبي حيوة، والأصمعي عن أبي عمرو : بكسر القاف مشدّدة على الأمر لأهل مكة، أي فسيحوا في البلاد وابحثوا. وقرىء : بكسر القاف خفيفة، أي نقبت أقدامهم وأخفاف إبلهم، أو حفيت لكثرة تطوافهم في البلاد، من نقب خف البعير إذا انتقب ودمى. ويحتمل أن يكون ﴿هَلْ مِن مَّحِيصٍ﴾ على إضمار القول، أي يقولون هل من محيص من الهلاك ؟ واحتمل أن لا يكون ثم قول، أي لا محيص من الموت، فيكون توفيقاً وتقريراً.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١١٨
﴿إِنَّ فِى ذَالِكَ﴾ : أي في إهلاك تلك القرون، ﴿لِذِكْرِى ﴾ : لتذكرة واتعاظاً، ﴿لِمَن كَانَ لَه قَلْبٌ﴾ : أي واع، والمعنى : لمن له عقل وعبر عنه بمحله، ومن له قلب لا يعي، كمن لا قلب له. وقرأ الجمهور :﴿أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ﴾، مبنياً للفاعل، والسمع نصب به، أي أو أصغى سمعه مفكراً فيه، و﴿شَهِيدٌ﴾ : من الشهادة، وهو الحضور. وقال قتادة : لمن كان له، قيل : من أهل الكتاب، فيعتبر ويشهد بصحتها لعلمه بذلك من التوراة، فشهيد من الشهادة. وقرأ السلمي، وطلحة، والسدي، وأبو البر هثيم : أو ألقى مبنياً، للمفعول، السمع : رفع به، أي السمع منه، أي من الذي له قلب. وقيل : المعنى : أو لمن ألقي غيره السمع وفتح له أذنه ولم يحضر ذهنه، أي الملقي والفاتح والملقى له والمفتوح أذنه حاضر الذهن متفطن. وذكر لعاصم أنها قراءة السدي، فمقته وقال : أليس يقول يلقون السمع ؟
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ﴾ : نزلت في اليهود تكذيباً لهم في قولهم : إنه تعالى استراح من خلق السموات والأرض، ﴿فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ : يوم السبت، واستلقى على العرش، وقيل : التشبيه الذي وقع في هذه الأمة إنما أخذ من اليهود. ﴿وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ﴾ : احتمل أن تكون جملة حالية، واحتمل أن تكون استئنافاً ؛ واللغوب : الإعياء. وقرأ الجمهور : بضم اللام، وعلي، والسلمي، وطلحة، ويعقوب، بفتحها، وهما مصدران، الأول مقيس وهو الضم، وأما الفتح فغير مقيس، كالقبول والولوع، وينبغي أن يضاف إلى تلك الخمسة التي ذكرها سيبويه، وزاد الكسائي الوزوع فتصير سبعة.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١١٨
﴿فَاصْبِرْ﴾، قيل : منسوخ بآية السيف، ﴿عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾ : أي اليهود وغيرهم من الكفار قريش وغيرهم، ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾، أي فصلّ، ﴿قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ﴾، هي صلاة الصبح، ﴿وَقَبْلَ الْغُرُوبِ﴾ : هي صلاة العصر، قاله قتادة وابن زيد والجمهور. وقال ابن عباس : قبل الغروب : الظهر والعصر. ﴿وَمِنَ الَّيْلِ﴾ : صلاة العشاءين، ﴿وَقَبْلَ الْغُرُوبِ﴾ : ركعتان قبل المغرب. وفي صحيح مسلم، عن أنس ما معناه : أن الصحابة كانوا يصلونها قبل المغرب. وقال قتادة : ما أدركت أحداً يصليها إلا أنساً وأبا برزة الأسلمي. وقال بعض التابعين : كان الصحابة
١٢٩