وأما قوله تعالى فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاء مَا كَانُواْ بِهِ المراد منه الوعيد والزجر عن ذلك الاستهزاء فيجب أن يكون المراد بالأنباء الأنباء لا نفس الأنباء بل العذاب الذي أبنأ الله تعالى به ونظيره قوله تعالى لّلْعَالَمِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ ( ص ٨٨ ) والحكيم إذا توعد فربما قال ستعرف نبأ هذا الأمر إذ نزل بك ما تحذره وإنما كان كذلك لأن الغرض بالخبر الذي هو الوعيد حصول العلم بالعقاب الذي ينزل فنفس العقاب إذا نزل يحقق ذلك الخبر حتى تزول عنه الشبهة ثم المراد من هذ العذاب يحتمل أن يكون عذاب الدنيا وهو الذي ظهر يوم بدر ويحتمل أن يكون عذاب الآخرة
أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الأرض مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَآءَ عَلَيْهِم مَّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الاٌّ نْهَارَ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً ءَاخَرِينَ
اعلم أن الله تعالى لما منعهم عن ذلك الإعراض والتكذيب والاستهزاء بالتهديد والوعيد أتبعه بما يجري مجرى الموعظة والنصيحة في هذا الباب فوعظهم بسائر القرون الماضية كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم شعيب وفرعون وغيرهم
فإن قيل ما القرن قلنا قال الواحدي القرن القوم المقترنون في زمان من الدهر فالمدة التي يجتمع فيها قوم ثم يفترقون بالموت فهي قرن لأن الذين يأتون بعدهم أقوام آخرون اقترنوا فهم قرن آخر والدليل عليه قوله عليه السلام ( خير القرون قرني ) واشتقاقه من الأقران ولما كان أعمار الناس في الأكثر الستين والسبعين والثمانين لا جرم قال بعضهم القرن هو الستون وقال آخرون هو السبعون وقال قوم هو الثمانون والأقرب أنه غير مقدر بزمان معين لا يقع فيه زيادة ولا نقصان بل المراد أهل كل عصر فإذا انقضى منهم الأكثر قيل قد انقضى القرن
واعلم أن الله تعالى وصف القرون الماضية بثلاثة أنواع من الصفات
الصفة الأولى قوله مَّكَّنَّاهُمْ فِى الاْرْضِ مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ قال صاحب ( الكشاف ) مكن له في الأرض جعل له مكاناً ونحوه في أرض له ومنه قوله تعالى إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الاْرْضِ ( الكهف ٨٤ ) أَوَ لَمْ نُمَكّن لَّهُمْ ( القصص ٥٧ ) وأما مكنته في الأرض فمعناه أثبته فيها ومنه قوله تعالى وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ ( الأحقاف ٢٦ ) ولتقارب المعنيين جمع الله بينهما في قوله مَّكَّنَّاهُمْ فِى الاْرْضِ مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ والمعنى لم نعط أهل مكة مثل ما أعطينا عاداً وثمود وغيرهم من البسطة في الأجسام والسعة في الأموال والاستظهار بأسباب الدنيا
والصفة الثانية قوله وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مَّدْرَاراً يريد الغيث والمطر فالسماء معناه المطر ههنا والمدرار الكثير الدر وأصله من قولهم در اللبن إذا أقبل على الحالب منه شيء كثير فالمدرار يصلح أن


الصفحة التالية
Icon