والجواب أن قوله مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَى ْء يجب أن يكون مخصوصاً ببيان الأشياء التي يجب معرفتها ولإحاطة بها وبيانه من وجهين الأول أن لفظ التفريط لا يستعمل نفياً وإثباتاً إلا فيما يجب أن يبين لأن أحداً لا ينسب إلى التفريط والتقصير في أن لا يفعل ما لا حاجة إليه وإنما يذكر هذا اللفظ فيما إذا قصر فيما يحتاج إليه الثاني أن جميع آيات القرآن أو الكثير منها دالة بالمطابقة أو التضمن أو الالتزام على أن المقصود من إنزال هذا الكتاب بيان الدين ومعرفة الله ومعرفة أحكام الله وإذا كان هذا التقييد معلوماً من كل القرآن كان المطلق ههنا محمولاً على ذلك المقيد أما قوله إن هذا الكتاب غير مشتمل على جميع علوم الأصول والفروع
فنقول أما علم الأصول فإنه بتمامه حاصل فيه لأن الدلائل الأصلية مذكورة فيه على أبلغ الوجوه فأما روايات المذاهب وتفاصيل الأقاويل فلا حاجة إليها وأما تفاصيل علم الفروع فنقول للعلماء ههنا قولان الأول أنهم قالوا أن القرآن دل على أن الاجماع وخبر الواحد والقياس حجة في الشريعة فكل ما دل عليه أحد الأصول الثلاثة كان ذلك في الحقيقة موجوداً في القرآن وذكر الواحدي رحمه الله لهذا المعنى أمثلة ثلاثة
المثال الأول روي أن ابن مسعود كان يقول مالي لا ألعن من لعنه الله في كتابه يعني الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة وروي أن أمرأة قرأت جميع القرآن ثم أتته فقالت يا بان أم عبد تلوت البارحة ما بين الدفتين فلم أجد فيه لعن الواشمة والمستوشمة فقال لو تلوتيه لوجدتيه قال الله تعالى وَمَا ءاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ( الحشر ٧ ) وإن مما أتانا به رسول الله أنه قال لعن الله الواشمة والمستوشمة ) وأقول يمكن وجدان هذا المعنى في كتاب الله بطريق أوضح من ذلك لأنه تعالى قال في سورة النساء وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً لَّعَنَهُ اللَّهُ ( النساء ١١٧ ١١٨ ) فحكم عليه باللعن ثم عدد بعده قبائح أفعاله وذكر من جملتها قوله وَلاَمُرَنَّهُمْ الْعَالِمُونَ خَلَقَ اللَّهُ ( النساء ١١٩ ) وظاهر هذه الآية يقتضي أن تغيير الخلق يوجب اللعن
المثال الثاني ذكر أن الشافعي رحمه الله كان جالساً في المسجد الحرام فقال ( لا تسألوني عن شيء إلا أجبتكم فيه من كتاب الله تعالى ) فقال رجل ما تقول في المحرم إذا قتل الزنبور فقال ( لا شيء عليه ) فقال أين هذا في كتاب الله فقال قال الله تعالى وَمَا ءاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ثم ذكر إسناداً إلى النبي ( ﷺ ) أنه قال ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ) ثم ذكر إسناداً إلى عمر رضي الله عنه أنه قال للمحرم قتل الزنبور قال الواحدي فأجابه من كتاب الله مستنبطاً بثلاث درجات وأقول ههنا طريق آخر أقرب منه وهو أن الأصل في أموال المسلمين العصمة قال تعالى لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ( البقرة ٢٨٦ ) وقال وَلاَ يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ ( محمد ٣٦ ) وقال لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَة ً عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ ( النساء ٢٩ ) فنهى عن أكل أموال الناس إلا بطريق التجارة فعند عدم التجارة وجب أن يبقى على أصل الحرمة وهذه العمومات تقتضي أن لا يجب على المحرم الذي قتل الزنبور شيء وذلك لأن التمسك بهذه العمومات يوجب الحكم بمرتبة واحدة
وأما الطريق الذي ذكره الشافعي فهو تمسك بالعموم على أربع درجات أولها التمسك بعموم قوله


الصفحة التالية
Icon