المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الهدى والضلال ليس إلا من الله تعالى وتقريره أنه تعالى وصفهم بكونهم صماً وبكماً وبكونهم في الظلمات وهو إشارة إلى كونهم عمياً فهو بعينه نظير قوله في سورة البقرة صُمٌّ بُكْمٌ عُمْى ٌ ( البقرة ١٨ )
ثم قال تعالى مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ وهو صريح في أن الهدى والضلال ليسا إلا من الله تعالى قالت المعتزلة الجواب عن هذا من وجوه
الوجه الأول قال الجبائي معناه أنه تعالى يجعلهم صماً وبكماً يوم القيامة عند الحشر ويكونون كذلك في الحقيقة بأن يجعلهم في الآخرة صماً وبكماً في الظلمات ويضلهم بذلك عن الجنة وعن طريقها ويصيرهم إلى النار وأكد القاضي هذا القول بأنه تعالى بين في سائر الآيات أنه يحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً مأواهم جهنم
والوجه الثاني قال الجبائي أيضاً ويحتمل أنهم كذلك في الدنيا فيكون توسعاً من حيث جعلوا بتكذيبهم بآيات الله تعالى في الظلمات لا يهتدون إلى منافع الدين كالصم والبكم الذين لا يهتدون إلى منافع الدنيا فشبههم من هذا الوجه بهم وأجرى عليهم مثل صفاتهم على سبيل التشبيه
والوجه الثالث قال الكعبي قوله صُمٌّ وَبُكْمٌ محمول على الشتم والإهانة لا على أنهم كانوا كذلك في الحقيقة وأما قوله تعالى مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ فقال الكعبي ليس هذا على سبيل المجاز لأنه تعالى وإن أجمل القول فيه ههنا فقد فصله في سائر الآيات وهو قوله وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ( إبراهيم ٢٧ ) وقوله وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ( البقرة ٢٦ ) وقوله وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى ( محمد ١٧ ) وقوله يَهْدِى بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ ( المائدة ١٦ ) وقوله يُثَبّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ ( إبراهيم ٢٧ ) وقوله وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ ( العنكبوت ٦٩ ) فثبت بهذه الآيات أن مشيئة الهدى والضلال وإن كانت مجملة في هذه الآية إلا أنها مخصصة مفصلة في سائر الآيات فيجب حمل هذا المجمل على تلك المفصلات ثم إن المعتزلة ذكروا تأويل هذه الآية على سبيل التفصيل من وجوه الأول أن المراد من قوله الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ محمول على منع الألطاف فصاروا عندها كالصم والبكم والثاني مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ يوم القيامة عن طريق الجنة وعن وجدان الثواب ومن يشأ أن يهديه إلى الجنة يجعله على صراط مستقيم وهو الصراط الذي يسلكه المؤمنون إلى الجنة
وقد ثبت بالدليل أنه تعالى لا يشاء هذا الاضلال إلا لمن يستحق عقوبة كما لا يشاء الهدى إلا للمؤمنين
وأعلم أن هذه الوجوه التي تكلفها هؤلاء الأقوام إنما يحسن المصير إليها لو ثبت في العقل أنه لا يمكن حمل هذا الكلام على ظاهره وأما لما ثبت بالدليل العقلي القاطع أنه لا يمكن حمل هذا الكلام إلا على ظاهره كان العدول إلى هذه الوجوه المتكلفة بعيداً جداً وقد دللنا على أن الفعل لا يحصل إلا عند حصول الداعي وبينا أن خالق ذلك الداعي هو الله وبينا أن عند حصوله يجب الفعل فهذه المقدمات الثلاثة توجب القطع بأن الكفر والإيمان من الله وبتخليقه وتقديره وتكوينه ومتى ثبت بهذا البرهان القاطع صحة هذا الظاهر كان الذهاب إلى هذه التكلفات فاسداً قطعاً وأيضاً فقد تتبعنا هذه الوجوه بالابطال والنقض في