ثم قال تعالى وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عامر وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بالرفع على معنى الابتداء والباقون بالنصب على معنى وجعل الشمس والقمر قال الواحدي والنصب هو الوجه لقوله تعالى وَاسْجُدُواْ لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَهُنَّ ( فصلت ٣٧ ) فكما صرح في هذه الآية أنه سخر الشمس والقمر كذلك يجب أن يحمل على أنه خلقها في قوله إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ وهذا النصف على الحال أي خلق هذه الأشياء حال كونها موصوفة بهذه الصفات والآثار والأفعال وحجة ابن عامر قوله تعالى وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ( الجاثية ١٣ ) ومن جملة ما في السماء الشمس والقمر فلما أخبر أنه تعالى سخرها حسن الأخبار عنها بأنها مسخرة كما أنك إذا قلت ضربت زيداً استقام أن تقول زيد مضروب
المسألة الثانية في هذه الآية لطائف فالأولى أن الشمس لها نوعان من الحركة
أحد النوعين حركتها بحسب ذاتها وهي إنما تتم في سنة كاملة وبسبب هذه الحركة تحصل السنة
والنوع الثاني حركتها بسبب حركة الفلك الأعظم وهذه الحركة تتم في اليوم بليلة
إذا عرفت هذا فنقول الليل والنهار لا يحصل بسبب حركة الشمس وإنما يحصل بسبب حركة السماء الأقصى التي يقال لها العرش فهذا السبب لما ذكر العرش بقوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ربط به قوله وَهُوَ الَّذِى مَدَّ تنبيهاً على أن سبب حصول الليل والنهار هو حركة الفلك الأقصى لا حركة الشمس والقمر وهذه دقيقة عجيبة والثانية أنه تعالى لما شرح كيفية تخليق السموات قال فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِى يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِى كُلّ سَمَاء أَمْرَهَا ( فصلت ١٢ ) فدلت تلك الآية على أنه سبحانه خص كل ذلك بلطيفة نورانية ربانية من عالم الأمر
ثم قال بعده أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ وهو إشارة إلى أن كل ما سوى الله تعالى أما من عالم الخالق أو من عالم الأمر أما الذي هو من عالم الخلق فالخلق عبارة عن التقدير وكل ما كان جسماً أو جسمانياً كان مخصوصاً بمقدار معين فكان من عالم الخلق وكل ما كان بريئاً عن الحجمية والمقدار كان من عالم الأرواح ومن عالم الأمر فدل على أنه سبحانه خص كل واحد من أجرام الأفلاك والكواكب التي هي من عالم الخلق بملك من الملائكة وهم من عالم الأمر والأحاديث الصحيحة مطابقة لذلك وهي ما روي في الأخبار أن لله ملائكة يحركون الشمس والقمر عند الطلوع وعند الغروب وكذا القول في سائر الكواكب وأيضاً قوله سبحانه وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَة ٌ ( الحاقة ١٧ ) إشارة إلى أن الملائكة الذين يقومون بحفظ العرش ثمانية ثم إذا دققت النظر علمت أن عالم الخلق في تسخير الله وعالم الأمر في تدبير الله واستيلاء الروحانيات على الجسمانيات بتقدير الله فلهذا المعنى قال أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ
ثم قال بعده تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ والبركة لها تفسيران أحدهما البقاء والثبات والثاني كثرة الآثار الفاضلة والنتائج الشريفة وكلا التفسيرين لا يليق إلا بالحق سبحانه فإن حملته على الثبات والدوام فالثابت والدائم هو الله تعالى لأنه الموجود الواجب لذاته العالم لذاته القائم بذاته الغني في ذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه عن كل ما سواه فهو سبحانه مقطع الحاجات ومنهى الافتقارات وهو غني عن كل ما سواه


الصفحة التالية
Icon