واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه المراتب الثلاثة ذكر بعدها ما يترتب عليها من الآثار النافعة والنتائج المطلوبة ومن المعلوم أن المطالب محصورة في نوعين لأنه إما أن يكون حصولها في الدنيا أو في الآخرة أما المنافع الدنيوية فهي المراد من قوله يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وهذا يدل على أن المقبل على عبادة الله والمشتغل بها يبقى في الدنيا منتظم الحال مرفه البال وفي الآية سؤالات
السؤال الأول أليس أن النبي ( ﷺ ) قال ( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ) وقال أيضاً ( خص البلاء بالأنبياء ثم الأولياء تم الأمثل فالأمثل ) وقال تعالى وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّة ً واحِدَة ً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّة ٍ ( الزخرف ٣٣ ) فهذه النصوص دالة على أن نصيب المشتغل بالطاعات في الدنيا هو الشدة والبلية ومقتضى هذه الآية أن نصيب المشتغل بالطاعات الراحة في الدنيا فكيف الجمع بينهما
الجواب من وجوه الأول المراد أنه تعالى لا يعذبهم بعذاب الاستئصال كما استأصل أهل القرى الذين كفروا الثاني أنه تعالى يوصل إليهم الرزق كيف كان وإليه الإشارة بقوله وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلواة ِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ( طه ١٣٢ ) الثالث وهو الأقوى عندي أن يقال إن المشتغل بعبادة الله وبمحبة الله مشتغل بحب شيء يمتنع تغيره وزواله وفناؤه فكل من كان إمعانه في ذلك الطريق أكثر وتوغله فيه أتم كان انقطاعه عن الخلق أتم وأكمل وكلما كان الكمال في هذا الباب أكثر كان الابتهاج والسرور أتم لأنه أمن من تغير مطلوبه وأمن من زوال محبوبه فأما من كان مشتغلاً بحب غير الله كان أبداً في ألم الخوف من فوات المحبوب وزواله فكان عيشه منغصاً وقلبه مضطرباً ولذلك قال الله تعالى في صفة المشتغلين بخدمته فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَواة ً طَيّبَة ً ( النحل ٩٧ )
السؤال الثاني هل يدل قوله إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى على أن للعبد أجلين وأنه يقع في ذلك التقديم والتأخير
والجواب لا ومعنى الآية أنه تعالى حكم بأن هذا العبد لو اشتغل بالعبادة لكان أجله في الوقت الفلاني ولو أعرض عنها لكان أجله في وقت آخر لكنه تعالى عالم بأنه لو اشتغل بالعبادة أم لا فإن أجله ليس إلا في ذلك الوقت المعين فثبت أن لكل إنسان أجلاً واحداً فقط
السؤال الثالث لم سمى منافع الدنيا بالمتاع
الجواب لأجل التنبيه على حقارتها وقلتها ونبه على كونها منقضية بقوله تعالى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فصارت هذه الآية دالة على كونها حقيرة خسيسة منقضية ثم لما بين تعالى ذلك قال وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ والمراد منه السعادات الأخروية وفيها لطائف وفوائد
الفائدة الأولى أن قوله وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ معناه ويؤت كل ذي فضل موجب فضله ومعلوله والأمر كذلك وذلك لأن الإنسان إذا كان في نهاية البعد عن الاشتغال بغير الله وكان في غاية الرغبة في تحصيل أسباب معرفة الله تعالى فحينئذ يصير قلبه فصاً لنقش الملكوت ومرآة يتجلى بها قدس اللاهوت إلا أن العلائق الجسدانية الظلمانية تكدر تلك الأنوار الروحانية فإذا زالت هذه العلائق أشرقت تلك الأنوار وتلألأت تلك الأضواء وتوالت موجبات السعادات فهذا هو المراد من قوله وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ


الصفحة التالية
Icon