كما قال تعالى ذالِكَ يُخَوّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ ياعِبَادِ عِبَادِ فَاتَّقُونِ ( الزمر ١٦ ) فإما أن يفعل تعالى ذلك فما الدليل عليه قوله لو لم يفعل ما أخبر عنه من الوعد والوعيد لصار كلامه كذباً فنقول ألستم تخصصون أكثر عمومات القرآن لقيام الدلالة على وجوب ذلك التخصيص فإن كان هذا كذباً وجب فيما تحكمون به من تلك التخصيصات أن يكون كذباً سلمنا أنه لا بد وأن يفعل الله تعالى ذلك لكن لم لا يجوز أن يقال إن ذلك الثواب والعقاب عبارة عما يصل إلى الإنسان من أنواع الراحات واللذات ومن أنواع الآلام والأسقام وأقسام الهموم والغموم
والجواب عن السؤال الأول أن العقل وإن كان يدعوه إلى فعل الخير وترك الشر إلا أن الهوى والنفس يدعوانه إلى الانهماك في الشهوات الجسمانية واللذات الجسدانية وإذا حصل هذا التعارض فلا بد من مرجح قوي ومعاضد كامل وما ذاك إلا ترتيب الوعد والوعيد والثواب والعقاب على الفعل والترك
والجواب عن السؤال الثاني أنه إذا جوز الإنسان حصول الكذب على الله تعالى فحينئذ لا يحصل من الوعد رغبة ولا من الوعيد رهبة لأن السامع يجوز كونه كذباً
والجواب عن السؤال الثالث أن العبد ما دامت حياته في الدنيا فهو كالأجير المشتغل بالعمل والأجير حال اشتغاله بالعمل لا يجوز دفع الأجرة بكمالها إليه لأنه إذا أخذها فإنه لا يجتهد في العمل وأما إذا كان محل أخذ الأجرة هو الدار الآخرة كان الاجتهاد في العمل أشد وأكمل وأيضاً نرى في هذه الدنيا أن أزهد الناس وأعلمهم مبتلي بأنواع الغموم والهموم والأحزان وأجهلهم وأفسقهم في اللذات والمسرات فعلمنا أن دار الجزاء يمتنع أن تكون هذه الدار فلا بد من دار أخرى ومن حياة أخرى ليحصل فيها الجزاء
الحجة الثانية أن صريح العقل يوجب في حكمة الحكيم أن يفرق بين المحسن وبين المسيء وأن لا يجعل من كفر به أو جحده بمنزلة من أطاعه ولما وجب إظهار هذه التفرقة فحصول هذه التفرقة إما أن يكون في دار الدنيا أو في دار الآخرة والأول باطل لأنا نرى الكفار والفساق في الدنيا في أعظم الراحات ونرى العلماء والزهاد بالضد منه ولهذا المعنى قال تعالى وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّة ً واحِدَة ً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّة ٍ ( الزخرف ٣٣ ) فثبت أنه لا بد بعد هذه الدار من دار أخرى وهو المراد من الآية التي نحن في تفسيرها وهي قوله إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّا وهو المراد أيضاً بقوله تعالى في سورة طه إِنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ( طه ١٥ ) وبقوله تعالى في سورة ص أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الاْرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ( ص ٢٨ )
فإن قيل أما أنكرتم أن يقال إنه تعالى لا يفصل بين المحسن وبين المسيء في الثواب والعقاب كما لم فصل بينهما في حسن الصورة وفي كثرة المال
والجواب أن هذا الذي ذكرته مما يقوي دليلنا فإنه ثبت في صريح العقل وجوب التفرقة ودل الحس على أنه لم تحصل هذه التفرقة في الدنيا بل كان الأمر على الضد منه فإنا نرى العالم والزاهد في أشد البلاء ونرى الكافر والفاسق في أعظم النعم فعلمنا أنه لا بد من دار أخرى يظهر فيها هذا التفاوت وأيضاً لا يبعد أن يقال إنه تعالى علم أن هذا الزاهد العابد لو أعطاه ما دفع إلى الكافر الفاسق لطغى وبغى


الصفحة التالية
Icon