بنفسك ومن معك إلى السفينة
فإن قيل فما الأصح من هذه اقوال
قلنا الأصل حمل الكلام على حقيقته ولفظ التنور حقيقة في الموضع الذي يخبز فيه فوجب حمل اللفظ عليه ولا امتناع في العقل في أن يقال إن الماء نبع أولاً من موضع معين وكان ذلك الموضع تنوراً
فإن قيل ذكر التنور بالألف واللام وهذا إنما يكون معهود سابق معين معلوم عند السامع وليس في الأرض تنور هذا شأنه فوجب أن يحمل ذلك على أن المراد إذا رأيت الماء يشتد نبوعه والأمر يقوى فانج بنفسك وبمن معك
قلنا لا يبعد أن يقال إن ذلك التنور كان لنوح عليه السلام بأن كان تنور آدم أو حواء أو كان تنوراً عينه الله تعالى لنوح عليه السلام وعرفه أنك إذا رأيت الماء يفور فاعلم أن الأمر قد وقع وعلى هذا التقدير فلا حاجة إلى صرف الكلام عن ظاهره
المسألة الرابعة معنى فار نبع على قوة وشدة تشبيهاً بغليان القدر عند قوة النار ولا شبهة في أن نفس التنور لا يفور فالمراد فار الماء من التنور والذي روى أن فور التنور كان علامة لهلاك القوم لا يمتنع لأن هذه واقعة عظيمة وقد وعد الله تعالى المؤمنين النجاة فلا بد وأن يجعل لهم علامة بها يعرفون الوقت المعين فلا يبعد جعل هذه الحالة علامة لحدوث هذه الواقعة
المسألة الخامسة قال الليث التنور لفظة عمت بكل لسان وصاحبه تنار قال الأزهري وهذا يدل على أن الاسم قد يكون أعجمياً فتعربه العرب فيصير عربياً والدليل على ذلك أن الأصل تنار ولا يعرف في كلام العرب تنور قبل هذا ونظيره ما دخل في كلام العرب من كلام العجم الديباج والدينار والسندس والاستبرق فإن العرب لما تكلموا بهذه الألفاظ صارت عربية
واعلم أنه لما فار التنور فعند ذلك أمره الله تعالى بأن يحمل في السفينة ثلاثة أنواع من الأشياء فالأول قوله التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ قال الأخفش تقول الاثنان هما زوجان قال تعالى وَمِن كُلّ شَى ْء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ( الذاريات ٤٩ ) فالسماء زوج والأرض زوج والشتاء زوج والصيف زوج والنهار زوج والليل زوج وتقول للمرأة هي زوج وهو زوجها قال تعالى وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ( النساء ١ ) يعني المرأة وقال وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالاْنثَى ( النجم ٤٥ ) فثبت أن الواحد قد يقال له زوج ومما يدل على ذلك قوله تعالى ثَمَانِيَة َ أَزْواجٍ مّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ( الأنعام ١٤٣ )
إذا عرفت هذا فنقول الزوجان عبارة عن كل شيئين يكون أحدهما ذكراً والآخر أنثى والتقدير كل شيئين هما كذلك فاحمل منهما في السفينة اثنين واحد ذكر والآخر أنثى ولذلك قرأ حفص مِن كُلّ بالتنوين وأرادوا حمل من كل شيء زوجين اثنين الذكر زوج والأنثى زوج لا يقال عليه إن الزوجين لا يكونان إلا اثنين فما الفائدة في قوله زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ لأنا نقول هذا على مثال قوله لاَ تَتَّخِذُواْ إِلاهَيْنِ اثْنَيْنِ ( النحل ٥١ ) وقوله نَفْخَة ٌ واحِدَة ٌ ( الحاقة ١٣ ) وأما على القراءة المشهورة فهذا السؤال غير وارد واختلفوا في أنه هل دخل في قوله زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ غير الحيوان أم لا فنقول أما الحيوان فداخل لأن قوله مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يدخل فيه كل الحيوانات وأما النبات فاللفظ لا يدل عليه إلا أنه بحسب قرينة الحال لا يبعد بسبب أن الناس محتاجون إلى النبات بجميع أقسامه وجاء في الروايات عن ابن مسعود رضي الله عنهما أنه قال لم يستطع نوح عليه السلام أن يحمل الأسد حتى ألقيت عليه الحمى وذلك أن نوحاً عليه السلام قال يا رب فمن أين أطعم الأسد إذا حملته قال تعالى ( فسوف أشغله عن الطعام ) فسلط الله تعالى عليه الحمى وأمثال هذه الكلمات الأولى تركها فإن حاجة الفيل إلى الطعام أكثر وليس به حمى الثاني من الأشياء التي أمر الله نوحاً عليه السلام بحملها في السفينة


الصفحة التالية
Icon