الكلام أن الإنسان حين كان جنيناً في بطن أمه كان في أضيق المواضع وأشدها عفونة وفساداً ثم إذا خرج من بطن أمه كانت الحالة الثانية أطيب وأشرف من الحالة الأولى ثم إنه عند ذلك يوضع في المهد ويشد شداً وثيقاً ثم بعد حين يخرج من المهد ويعدو يميناً وشمالاً وينتقل من تناول اللبن إلى تناول الأطعمة الطيبة وهذه الحالة الثالثة لا شك أنها أطيب من الحالة الثانية ثم إنه بعد حين يصير أميراً نافذ الحكم على الخلق أو عالماً مشرفاً على حقائق الأشياء ولا شك أن هذه الحالة الرابعة أطيب وأشرف من الحالة الثالثة وإذا ثبت هذا وجب بحكم هذا الاستقراء أن يقال الحالة الحاصلة بعد الموت تكون أشرف وأعلى وأبهج من اللذات الجسدانية والخيرات الجسمانية
الحجة الثامنة طريقة الاحتياط فإنا إذا آمنا بالمعاد وتأهبنا له فإن كان هذا المذهب حقاً فقد نجونا وهلك المنكر وإن كان باطلاً لم يضرنا هذا الاعتقاد غاية ما في الباب أن يقال إنه تفوتنا هذه اللذات الجسمانية إلا أنا نقول يجب على العاقل أن لا يبالي بفوتها لأمرين أحدهما أنها في غاية الخساسة لأنها مشترك فيها بين الخنافس والديدان والكلاب والثاني أنها منقطعة سريعة الزوال فثبت أن الاحتياط ليس إلا في الإيمان بالمعاد ولهذا قال الشاعر قال المنجم والطبيب كلاهما
لا تحشر الأموات قلت إليكما
إن صح لكما فلست بخاسر
أو صح قولي فالخسار عليكما
الحجة التاسعة اعلم أن الحيوان ما دام يكون حيواناً فإنه إن قطع منه شيء مثل ظفر أو ظلف أو شعر فإنه يعود ذلك الشيء وإن جرح اندمل ويكون الدم جارياً في عروقه وأعضائه جريان الماء في عروق الشجر وأغصانه ثم إذا مات انقلبت هذه الأحوال فإن قطع منه شيء من شعره أو ظفره لم ينبت وإن جرح لم يندمل ولم يلتحم ورأيت الدم يتجمد في عروقه ثم بالآخرة يؤول حاله إلى الفساد والانحلال ثم إنا لما نظرنا إلى الأرض وجدناها شبيهة بهذه الصفة فإنا نراها في زمان الربيع تفور عيونها وتربو تلالها وينجذب الماء إلى أغصان الأشجار وعروقها والماء في الأرض بمنزلة الدم الجاري في بدن الحيوان ثم تخرج أزهارها وأنوارها وثمارها كما قال تعالى فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ( الحج ٥ ) وإن جذ من نباتها شيء أخلف ونبت مكانه آخر مثله وإن قطع غصن من أغصان الأشجار أخلف وإن جرح التأم وهذه الأحوال شبيهة بالأحوال التي ذكرناها للحيوان ثم إذا جاء الشتاء واشتد البرد غارت عيونها وجفت رطوبتها وفسدت بقولها ولو قطعنا غصناً من شجرة ما أخلف فكانت هذه الأحوال شبيهة بالموت بعد الحياة ثم إنا نرى الأرض في الربيع الثاني تعود إلى تلك الحياة فإذا عقلنا هذه المعاني في إحدى الصورتين فلم لا نعقل مثله في الصورة الثانية بل نقول لا شك أن الإنسان أشرف من سائر الحيوانات والحيوان أشرف من النبات وهو أشرف من الجمادات فإذا حصلت هذه الأحوال في الأرض فلم لا يجوز حصولها في الإنسان
فإن قالوا إن أجساد الحيوان تتفرق وتتمزق بالموت وأما الأرض فليست كذلك
فالجواب أن الإنسان عبارة عن النفس الناطقة وهو جوهر باق أو إن لم نقل بهذا المذهب فهو عبارة عن أجزاء أصلية باقية من أول وقت تكون الجنين إلى آخر العمر وهي جارية في البدن وتلك الأجزاء


الصفحة التالية
Icon