باقية فزال هذا السؤال
الحجة العاشرة لا شك أن بدن الحيوان إنما تولد من النطفة وهذه النطفة إنما اجتمعت من جميع البدن بدليل أن عند انفصال النطفة يحصل الضعف والفتور في جميع البدن ثم إن مادة تلك النطفة إنما تولدت من الأغذية المأكولة وتلك الأغذية إنما تولدت من الأجزاء العنصرية وتلك الأجزاء كانت متفرقة في مشارق الأرض ومغاربها واتفق لها أن اجتمعت فتولد منها حيوان أو نبات فأكله إنسان فتولد منه دم فتوزع ذلك الدم على أعضائه فتولد منها أجزاء لطيفة ثم عند استيلاء الشهوة سال من تلك الرطوبات مقدار معين وهو النطفة فانصب إلى فم الرحم فتولد منه هذا الإنسان فثبت أن الأجزاء التي منها تولد بدن الأنسان كانت متفرقة في البحار والجبال وأوج الهواء ثم إنها اجتمعت بالطريق المذكور فتولد منها هذا البدن فإذا مات تفرقت تلك الأجزاء على مثال التفرق الأول
وإذا ثبت هذا فنقول وجب القطع أيضاً بأنه لا يمتنع أن يجتمع مرة أخرى على مثال الاجتماع الأول وأيضاً فذلك المني لما وقع في رحم الأم فقد كان قطرة صغيرة ثم تولد منه بدن الإنسان وتعلقت الروح به حال ما كان ذلك البدن في غاية الصغر ثم إن ذلك البدن لا شك أنه في غاية الرطوبة ولا شك أنه يتحلل منه أجزاء كثيرة بسبب عمل الحرارة الغريزية فيها وأيضاً فتلك الأجزاء البدنية الباقية أبداً في طول العمر تكون في التحلل ولولا ذلك لما حصل الجوع ولما حصلت الحاجة إلى الغذاء مع أنا نقطع بأن هذا الإنسان الشيخ هو عين ذلك الإنسان الذي كان في بطن أمه ثم انفصل وكان طفلاً ثم شاباً فثبت أن الأجزاء البدنية دائمة التحلل وأن الإنسان هو هو بعينه فوجب القطع بأن الإنسان إما أن يكون جوهراً مفارقاً مجرداً وإما أن يكون جسماً نورانياً لطيفاً باقياً مع تحلل هذا البدن فإذا كان الأمر كذلك فعلى التقديرين لا يمتنع عوده إلى الجثة مرة أخرى ويكون هذا الإنسان العائد عين الإنسان الأول فثبت أن القول بالمعاد صدق
الحجة الحادية عشر ما ذكره الله تعالى في قوله أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَة ٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّ بِينٌ واعلم أن قوله سبحانه خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَة ٍ ( يس ٧٧ ) إشارة إلى ما ذكرناه في الحجة العاشرة من أن تلك الأجزاء كانت متفرقة في مشارق الأرض ومغاربها فجمعها الله تعالى وخلق من تركيبها هذا الحيوان والذي يقويه قوله سبحانه وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَة ً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ ( المؤمنون ١٢ ١٣ ) فإن تفسيره هذه الآية إنما يصح بالوجه الذي ذكرناه وهو أن السلالة من الطين يتكون منها نبات ثم إن ذلك النبات يأكله الإنسان فيتولد منه الدم ثم الدم ينقلب نطفة فبهذا الطريق ينتظم ظاهر هذه الآية ثم إنه سبحانه بعد أن ذكر هذا المعنى حكى كلام المنكر وهو قوله تعالى قَالَ مَن يُحى ِ الْعِظَامَ وَهِى َ رَمِيمٌ ( يس ٧٨ ) ثم إنه تعالى بين إمكان هذا المذهب
واعلم أن إثبات إمكان الشيء لا يعقل إلا بطريقين أحدهما أن يقال إن مثله ممكن فوجب أن يكون هذا أيضاً ممكناً والثاني أن يقال إن ما هو أعظم منه وأعلى حالاً منه فهو أيضاً ممكن ثم إنه تعالى ذكر الطريق الأول أولاً فقال قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّة ٍ وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ( يس ٧٩ ) ثم فيه دقيقة وهي أن قوله قُلْ يُحْيِيهَا إشارة إلى كمال القدرة وقوله وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ إشارة إلى كمال


الصفحة التالية
Icon