المسألة الثانية أن قوله سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ فيه وجهان
الوجه الأول قول من يقول أن أهل الجنة جعلوا هذا الذكر علامة على طلب المشتهيات قال ابن جريج إذا مر بهم طيراً اشتهوه قالوا سبحانك اللهم فيؤتون به فإذا نالوا منه شهوتهم قالوا الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ وقال الكلبي قوله سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ علم بين أهل الجنة والخدام فإذا سمعوا ذلك من قولهم أتوهم بما يشتهون واعلم أن هذا القول عندي ضعيف جداً وبيانه من وجوه أحدها أن حاصل هذا الكلام يرجع إلى أن أهل الجنة جعلوا هذا الذكر العالي المقدس علامة على طلب المأكول والمشروب والمنكوح وهذا في غاية الخساسة وثانيها أنه تعالى قال في صفة أهل الجنة وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ فإذا اشتهوا أكل ذلك الطير فلا حاجة بهم إلى الطلب وإذا لم يكن بهم حاجة إلى الطلب فقد سقط هذا الكلام وثالثها أن هذا يقتضي صرف الكلام عن ظاهره الشريف العالي إلى محمل خسيس لا إشعار للفظ به وهذا باطل
الوجه الثاني في تأويل هذه الآية أن نقول المراد اشتغال أهل الجنة بتقديس الله سبحانه وتمجيده والثناء عليه لأجل أن سعادتهم في هذا الذكر وابتهاجهم به وسرورهم به وكمال حالهم لا يحصل إلا منه وهذا القول هو الصحيح الذي لا محيد عنه ثم على هذا التقدير ففي الآية وجوه أحدها قال القاضي إنه تعالى وعد المتقين بالثواب العظيم كما ذكر في أول هذه السورة من قوله إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّا ( يونس ٤ ) فإذا دخل أهل الجنة الجنة ووجدوا تلك النعم العظيمة عرفوا أن الله تعالى كان صادقاً في وعده إياهم بتلك النعم فعند هذا قالوا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ أي نسبحك عن الخلف في الوعد والكذب في القول وثانيها أن نقول غاية سعادة السعداء ونهاية درجات الأنبياء والأولياء استسعادهم بمراتب معارف الجلال
واعلم أن معرفة ذات الله تعالى والاطلاع على كنه حقيقته مما لا سبيل للخلق إليه بل الغاية القصوى معرفة صفاته السلبية أو صفاته الإضافية إما الصفات السلبية فهي المسماة بصفات الجلال وأما الصفات الإضافية فهي المسماة بصفات الإكرام فلذلك كان كمال الذكر العالي مقصوراً عليها كما قال سبحانه وتعالى تَبَارَكَ اسْمُ رَبّكَ ذِى الْجَلَالِ وَالإكْرَامِ ( الرحمن ٧٨ ) وكان ( ﷺ ) يقول ( ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام ) ولما كانت السلوب متقدمة بالرتبة على الإضافات لا جرم كان ذكر الجلال متقدماً على ذكر الإكرام في اللفظ وإذا ثبت أن غاية سعادة السعداء ليس إلا في هذين المقامين لا جرم ذكر الله سبحانه وتعالى كونهم مواظبين على هذا الذكر العالي المقدس ولما كان لا نهاية لمعارج جلال الله ولا غاية لمدارج إلهيته وإكرامه وإحسانه فكذلك لا نهاية لدرجات ترقي الأرواح المقدسة في هذه المقامات العلية الإلهية وثالثها أن الملائكة المقربين كانوا قبل تخليق آدم عليه السلام مشتغلين بهذا الذكر ألا ترى أنهم قالوا وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ ( البقرة ٣٠ ) فالحق سبحانه ألهم السعداء من أولاد آدم حتى أتوا بهذا التسبيح والتحميد ليدل ذلك على أن الذي أتى به الملائكة المقربون قبل خلق العالم من الذكر العالي فهو بعينه أتى به السعداء من أولاد آدم عليه السلام بعد انقراض العالم ولما كان هذا الذكر مشتملاً على هذا الشرف العالي لا جرم جاءت الرواية بقراءته في أول الصلاة فإن المصلي إذا كبر قال ( سبحانك اللهم وبحمدك


الصفحة التالية
Icon