عرض الحاجة إلى المخلوقين ثم لما وصفه بذلك ذكر أنه بقي لذلك السبب في السجن بضع سنين والمعنى أنه لما عدل عن الانقطاع إلى ربه إلى هذا المخلوق عوقب بأن لبث في السجن بضع سنين وحاصل الأمر أن رجوع يوسف إلى المخلوق صار سبباً لأمرين أحدهما أنه صار سبباً لاستيلاء الشيطان عليه حتى أنساه ذكر ربه الثاني أنه صار سبباً لبقاء المحنة عليه مدة طويلة
الوجه الثاني أن يوسف عليه السلام قال في إبطال عبادة الأوثان مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا ثم إنه ههنا أثبت رباً غيره حيث قال اذْكُرْنِى عِندَ رَبّكَ ومعاذ الله أن يقال إنه حكم عليه بكونه رباً بمعنى كونه إلهاً بل حكم عليه بالربوبية كما يقال رب الدار ورب الثوب على أن إطلاق لفظ الرب عليه بحسب الظاهر يناقض نفي الأرباب
الوجه الثالث أنه قال في تلك الآية ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء وذلك نفي للشرك على الإطلاق وتفويض الأمور بالكلية إلى الله تعالى فههنا الرجوع إلى غير الله تعالى كالمناقض لذلك التوحيد
واعلم أن الاستعانة بالناس في دفع الظلم جائزة في الشريعة إلا أن حسنات الأبرار سيئات المقربين فهذا وإن كان جائزاً لعامة الخلق إلا أن الأولى بالصديقين أن يقطعوا نظرهم عن الأسباب بالكلية وأن لا يشتغلوا إلا بمسبب الأسباب
الوجه الثاني في تأويل الآية أن يقال هب أنه تمسك بغير الله وطلب من ذلك الساقي أن يشرح حاله عند ذلك الملك إلا أنه كان من الواجب عليه أن لا يخلي ذلك الكلام من ذكر الله مثل أن يقول إن شاء الله أو قدر الله فلما أخلاه عن هذا الذكر وقع هذا الاستدراك
القول الثاني أن يقال إن قوله فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبّهِ راجع إلى الناجي والمعنى أن الشيطان أنسى ذلك الفتى أن يذكر يوسف للملك حتى طال الأمر فَلَبِثَ فِى السّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ بهذا السبب ومن الناس من قال القول الأول أولى لما روي عنه عليه السلام قال ( رحم الله يوسف لو لم يقل اذكرني عند ربك ما لبث في السجن ) وعن قتادة أن يوسف عليه السلام عوقب بسبب رجوعه إلى غير الله وعن إبراهيم التيمي أنه لما انتهى إلى باب السجن قال له صاحبه ما حاجتك قال أن تذكرني عند رب سوى الرب الذي قال يوسف وعن مالك لما قال يوسف للساقي اذكرني عند ربك قيل يا يوسف اتخذت من دوني وكيلاً لأطيلن حبسك فبكى يوسف وقال طول البلاء أنساني ذكر المولى فقلت هذه الكلمة فويل لإخوتي
قال مصنف الكتاب فخر الدين الرازي رحمه الله والذي جربته من أول عمري إلى آخره أن الإنسان كلما عول في أمر من الأمور على غير الله صار ذلك سبباً إلى البلاء والمحنة والشدة والرزية وإذا عول العبد على الله ولم يرجع إلى أحد من الخلق ذلك المطلوب على أحسن الوجوه فهذه التجربة قد استمرت لي من أول عمري إلى هذا الوقت الذي بلغت فيه إلى السابع والخمسين فعند هذا استقر قلبي على أنه لا مصلحة للإنسان في التعويل على شيء سوى فضل الله تعالى وإحسانه ومن الناس من رجح القول الثاني لأن صرف وسوسة الشيطان إلى ذلك الرجل أولى من صرفها إلى يوسف الصديق ولأن الاستعانة بالعباد في التخلص من الظلم جائزة
واعلم أن الحق هو القول الأول وما ذكره هذا القائل الثاني تمسك بظاهر الشريعة وما قرره القائل


الصفحة التالية
Icon