فدع عنك بحراً ضل فيه السوابح
قال تعالى عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ ( الجن ٢٦ ٢٧ ) وقال وَمَا أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ( الإسراء ٨٥ ) وقال وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ( هود ٣١ ) وقال مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ ( الكهف ٥١ ) فقد عجز الخلق عن معرفة ذواتهم وصفاتهم فكيف يقدرون على معرفة أبعد الأشياء عنهم والعرب مع بعدهم عن معرفة الحقائق عرفوا ذلك قال قائلهم فوأعرف ما في اليوم والأمس قبله
ولكنني عن علم ما في غد عمي
وقال لبيد ففوالله ما تدري الضوارب بالحصى
ولا زاجرات الطير ما الله صانع
المسألة الرابعة في شرح كون السماء بناء قال الجاحظ إذا تأملت في هذا العالم وجدته كالبيت المعد فيه كل ما يحتاج إليه فالسماء مرفوعة كالسقف والأرض ممدودة كالبساط والنجوم منورة كالمصابيح والإنسان كمالك البيت المتصرف فيه وضروب النبات مهيأة لمنافعة وضروب الحيوانات مصرفة في مصالحة فهذه جملة واضحة دالة على أن العالم مخلوق بتدبير كامل وتقدير شامل وحكمة بالغة وقدرة غير متناهية والله أعلم
أما قوله تعالى وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَّكُمْ فاعلم أن الله تعالى لما خلق الأرض وكانت كالصدف والدرة المودعة فيه آدم وأولاده ثم علم الله أصناف حاجاتهم فكأنه قال يا آدم لا أحوجك إلى شيء غير هذه الأرض التي هي لك كالأم فقال أَنَاْ صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الاْرْضَ شَقّاً ( عبس ٢٥ ٢٦ ) فانظر يا عبدي أن أعز الأشياء عندك الذهب والفضة ولو أني خلقت الأرض من الذهب والفضة هل كان يحصل منها هذه المنافع ثم إني جعلت هذه الأشياء في هذه الدنيا مع أنها سجن فكيف الحال في الجنة فالحاصل أن الأرض أمك بل أشفق من الأم لأن الأم تسقيك لوناً واحداً من اللبن والأرض تطعمك كذا وكذا لوناً من الأطعمة ثم قال مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ ( طه ٥٥ ) معناه نردكم إلى هذه الأم وهذا ليس بوعيد لأن المرء لا يوعد بأمه وذلك لأن مكانك من الأم التي ولدتك أضيق من مكانك من الأرض ثم إنك كنت في بطن الأم تسعة أشهر فما مسك جوع ولا عطش فكيف إذا دخلت بطن الأم الكبرى ولكن الشرط أن تدخل بطن هذه الأم الكبرى كما كنت في بطن الأم الصغرى لأنك حين كنت في بطن الأم الصغرى ما كانت لك زلة فضلاً عن أن تكون لك كبيرة بل كنت مطيعاً لله بحيث دعاك مرة إلى الخروج إلى الدنيا فخرجت إليها بالرأس طاعة منك لربك واليوم يدعوك سبعين مرة إلى الصلاة فلا تجيبه برجلك واعلم أنه سبحانه وتعالى لما ذكر الأرض والسماء بين ما بينهما من شبه عقد النكاح بإنزال الماء من السماء على الأرض والإخراج به من بطنها أشباه النسل الحاصل من الحيوان ومن أنواع الثمار رزقاً لبني آدم ليتفكروا في أنفسهم وفي أحوال ما فوقهم وما تحتهم ويعرفوا أن شيئاً من هذه الأشياء لا يقدر على تكوينها وتخليفها إلا من كان مخالفاً لها في الذات والصفات وذلك هو الصانع الحكيم سبحانه وتعالى وههنا سؤالات


الصفحة التالية
Icon