أشياء متحيزة جسمانية القول الثاني أن الملائكة ذوات قائمة بأنفسها وليست بمتحيزة ولا بأجسام فههنا قولان أحدهما قول طوائف من النصارى وهو أن الملائكة في الحقيقة هي الأنفس الناطقة المفارقة لأبدانها على نعت الصفاء والخيرية وذلك لأن هذه النفوس المفارقة إن كانت صافية خالصة فهي الملائكة وإن كانت خبيثة كدرة فهي الشياطين وثانيهما قول الفلاسفة وهي أنها جواهر قائمة بأنفسها وليست بمتحيزة البتة وأنها بالماهية مخالفة لأنواع النفوس الناطقة البشرية وأنها أكمل قوة منها وأكثر علماً منها وأنها للنفوس البشرية جارية مجرى الشمس بالنسبة إلى الأضواء ثم إن هذه الجواهر على قسمين منها ما هي بالنسبة إلى أجرام الأفلاك والكواكب كنفوسنا الناطقة بالنسبة إلى أبداننا ومنها ما هي لا على شيء من تدبير الأفلاك بل هي مستغرقة في معرفة الله ومحبته ومشتغلة بطاعته وهذا القسم هم الملائكة المقربون ونسبتهم إلى الملائكة الذين يدبرون السموات كنسبة أولئك المدبرين إلى نفوسنا الناطقة فهذان القسمان قد اتفقت الفلاسفة على إثباتهما ومنهم من أثبت أنواعاً أخر من الملائكة وهي الملائكة الأرضية المدبرة لأحوال هذا العالم السفلي ثم إن المدبرات لهذا العالم إن كانت خيرة فهم الملائكة وإن كانت شريرة فهم الشياطين فهذا تفصيل مذاهب الناس في الملائكة واختلف أهل العلم في أنه هل يمكن الحكم بوجودها من حيث العقل أو لا سبيل إلى إثباتها إلا بالسمع أما الفلاسفة فقد اتفقوا على أن في العقل دلائل تدل على وجود الملائكة ولنا معهم في تلك الدلائل أبحاث دقيقة عميقة ومن الناس من ذكر في ذلك وجوهاً عقلية اقناعية ولنشر إليها أحدها أن المراد من الملك الحي الناطق الذي لا يكون ميتاً فنقول القسمة العقلية تقتضي وجود أقسام ثلاثة فإن الحي إما أن يكون ناطقاً وميتاً معاً وهو الإنسان أو يكون ميتاً ولا يكون ناطقاً وهو البهائم أو يكون ناطقاً ولا يكون ميتاً وهو الملك ولا شك أن أخس المراتب هو الميت غير الناطق وأوسطها الناطق الميت وأشرفها الناطق الذي ليس بميت فإذا اقتضت الحكمة الإلهية إيجاد أخس المراتب وأوسطها فلأن تقتضي إيجاد أشرف المراتب وأعلاها كان ذلك أولى وثانياً أن الفطرة تشهد بأن عالم السموات أشرف من هذا العالم السفلي وتشهد بأن الحياة والعقل والنطق أشرف من أضدادها ومقابلتها فيبعد في العقل أن تحصل الحياة والعقل والنطق في هذا العالم الكدر الظلماني ولا تحصل البتة في ذلك العالم الذي هو عالم الضوء والنور والشرف وثالثها أن أصحاب المجاهدات أثبتوها من جهة المشاهدة والمكاشفة وأصحاب الحاجات والضرورات أثبتوها من جهة أخرى وهي ما يشاهد من عجائب آثارها في الهداية إلى المعالجات النادرة الغريبة وتركيب المعجونات واستخراج صنعة التريقات ومما يدل على ذلك حال الرؤيا الصادقة فهذه وجوه إقناعية بالنسبة إلى من سمعها ولم يمارسها وقطعية بالنسبة إلى من جربها وشاهدها واطلع على أسرارها وأما الدلائل النقلية فلا نزاع البتة بين الأنبياء عليهم السلام في إثبات الملائكة بل ذلك كالأمر المجمع عليه بينهم والله أعلم
المسألة الرابعة في شرح كثرتهم قال عليه الصلاة والسلام ( أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها


الصفحة التالية
Icon