زواله فإن كان الأول فهو حال النسيان غافل عن الأمر وكيف يوجه عليه التكليف مع النسيان وإن كان الثاني فهو ذاكر والذكر حاصل وتحصيل الحاصل محال فكيف كلفه به وهو أيضاً متوجه على قوله فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إله إِلائَ اللَّهِ ( محمد ١٩ ) إلا أن الجواب في قوله فاعلم أن المأمور به إنما هو معرفة للتوحيد وهذا من باب التصديقات فلا يقوى فيه ذلك الإشكال وأما الذكر فهو من باب التصورات فيقوى فيه ذلك الإشكال وجوابه على الإطلاق أنا نجد من أنفسنا أنه يمكننا التذكر وإذا كان ذلك ممكناً كان ما ذكرته تشكيكاً في الضروريات فلا يستحق الجواب بقي أن يقال فكيف يتذكر فنقول لا نعرف كيف يتذكر لكن علمك بتمكنك في علمك بأن في الجملة يكفيك في الاشتغال بالمجاهدة وعجزك عن إدراك تلك الكيفية يكفيك من التذكر ذاك ليس منك بل ههنا سر آخر وهو أنك لما عجزت عن إدراك ماهية التذكر والذكر مع أنه صفتك فأنى يمكنك الوقوف على كنه المذكور مع أنه أبعد الأشياء مناسبة منك فسبحان من جعل أظهر الأشياء أخفاها ليتوصل العبد به إلى كنه عجزه ونهاية قصوره فحينئذٍ يطالع شيئاً من مبادىء مقادير أسرار كونه ظاهراً باطناً وسابعها المعرفة وقد اختلفت الأقوال في تفسير هذه اللفظة فمنهم من قال المعرفة إدراك الجزئيات والعلم إدراك الكليات وآخرون قالوا المعرفة التصور والعلم هو التصديق وهؤلاء جعلوا العرفان أعظم درجة من العلم قالوا لأن تصديقنا باستناد هذه المحسوسات إلى موجود واجب الوجود أمر معلوم بالضرورة فأما تصور حقيقته فأمر فوق الطاقة البشرية ولأن الشيء ما لم يعرف وجوده فلا تطلب ماهيته فعلى هذا الطريق كل عارف عالم وليس كل عالم عارفاً ولذلك فإن الرجل لا يسمى بالعارف إلا إذا توغل في ميادين العلم وترقى من مطالعها إلى مقاطعها ومن مباديها إلى غياتها بحسب الطاقة البشرية وفي الحقيقة فإن أحداً من البشر لا يعرف الله تعالى لأن الاطلاع على كنه هويته وسر ألوهيته محال وآخرون قالوا من أدرك شيئاً وانحفظ أثره في نفسه ثم أدرك ذلك الشيء ثانياً وعرف أن هذا المدرك الذي أدركه ثانياً هو الذي أدركه أولاً فهذا هو المعرفة فيقال عرفت هذا الرجل وهو فلان الذي كنت رأيته وقت كذا ثم في الناس من يقول بقدم الأرواح ومنهم من يقول بتقدمها على الأبدان ويقول إنها هي الذر المستخرج من صلب آدم عليه السلام وإنها أقرت بالإلهية واعترفت بالربوبية إلا أنها لظلمة العلاقة البدنية نسيت مولاها فإذا عادت إلى نفسها متخلصة من ظلمة البدن وهاوية الجسم عرفت ربها وعرفت أنها كانت عارفة به فلا جرم سمى هذا الإدراك عرفاناً وثامنها الفهم وهو تصور الشيء من لفظ المخاطب والإفهام هو اتصال المعنى باللفظ إلى فهم السامع وتاسعها الفقه وهو العلم بغرض المخاطب من خطابه يقال فقهت كلامك أي وقفت على غرضك من هذا الخطاب ثم إن كفار قريش لما كانوا أرباب الشبهات والشهوات فما كانوا يقفون على ما في تكاليف الله تعالى من المنافع العظيمة لا جرم قال تعالى لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً ( الكهف ٩٣ ) أي لا يقفون على المقصود الأصلي والغرض الحقيقي وعاشرها العقل وهو العلم بصفات الأشياء من حسنها وقبحها وكمالها ونقصانها فإنك متى علمت ما فيها من المضار والمنافع صار علمك بما في الشيء من النفع داعياً لك إلى الفعل وعلمك بما فيه من الضرر داعياً لك إلى الترك فصار ذلك العلم مانعاً من الفعل مرة ومن الترك أخرى فيجري ذلك العلم مجرى عقال


الصفحة التالية
Icon