المسألة الثانية أنه تعالى لما بين حقيقة صفات المنافقين عقبها بضرب مثلين زيادة في الكشف والبيان أحدهما هذا المثل وفيه إشكالات أحدها أن يقال ما وجه التمثيل بمن أعطي نوراً ثم سلب ذلك النور منه مع أن المنافق ليس له نور وثانيها أن يقال إن من استوقد ناراً فأضاءت قليلاً فقد انتفع بها وبنورها ثم حرم فأما المنافقون فلا انتفاع لهم ألبتة بالإيمان فما وجه التمثيل وثالثها أن مستوقد النار قد اكتسب لنفسه النور والله تعالى ذهب بنوره وتركه في الظلمات والمنافق لم يكتسب خيراً وما حصل له من الخيبة والحيرة فقد أتى فيه من قبل نفسه فما وجه التشبيه والجواب أن العلماء ذكروا في كيفية التشبيه وجوهًا أحدها قال السدي إن ناساً دخلوا في الإسلام عند وصوله عليه السلام إلى المدينة ثم إنهم نافقوا والتشبيه ههنا في نهاية الصحة لأنهم بإيمانهم أولاً اكتسبوا نوراً ثم بنفاقهم ثانياً أبطلوا ذلك النور ووقعوا في حيرة عظيمة فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين لأن المتحير في طريقه لأجل الظلمة لا يخسر إلا القليل من الدنيا وأما المتحير في الدين فإنه يخسر نفسه في الآخرة أبد الآبدين وثانيها إن لم يصح ما قاله السدي بل كانوا منافقين أبداً من أول أمرهم فههنا تأويل آخر ذكره الحسن رحمه الله وهو أنهم لما أظهروا الإسلام فقد ظفروا بحقن دمائهم وسلامة أموالهم عن الغنيمة وأولادهم عن السبي وظفروا بغنائم الجهاد وسائر أحكام المسلمين وعد ذلك نوراً من أنوار الإيمان ولما كان ذلك بالإضافة إلى العذاب الدائم قليلاً قدرت شبههم بمستوقد النار الذي انتفع بضوئها قليلاً ثم سلب ذلك فدامت حيرته وحسرته للظلمة التي جاءته في أعقاب النور فكان يسير انتفاعهم في الدنيا يشبه النور وعظيم ضررهم في الآخرة يشبه الظلمة وثالثها أن نقول ليس وجه التشبيه أن للمنافق نوراً بل وجه التشبيه بهذا المستوقد أنه لما زال النور عنه تحير والتحير فيمن كان في نور ثم زال عنه أشد من تحير سالك الطريق في ظلمة مستمرة لكنه تعالى ذكر النور في مستوقد النار لكي يصح أن يوصف بهذه الظلمة الشديدة لا أن وجه التشبيه مجمع النور والظلمة ورابعها أن الذي أظهروه يوهم أنه من باب النور الذي ينتفع به وذهاب النور هو ما يظهره لأصحابه من الكفر والنفاق ومن قال بهذا قال إن المثل إنما عطف على قوله وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ فالنار مثل لقولهم ( آمنا ) وذهابه مثل لقولهم للكفار ( إنا معكم ) فإن قيل وكيف صار ما يظهره المنافق من كلمة الإيمان مثلاً بالنور وهو حين تكلم بها أضمر خلافها قلنا إنه لو ضم إلى القول اعتقاداً له وعملاً به لأتم النور لنفسه ولكنه لما لم يفعل لم يتم نوره وإنما سمى مجرد ذلك القول نوراً لأنه قول حق في نفسه وخامسها يجوز أن يكون استيقاد النار عبارة عن إظهار المنافق كلمة الإيمان وإنما سماه نوراً لأنه يتزين به ظاهره فيهم ويصير ممدوحاً بسببه فيما بينهم ثم إن الله تعالى يذهب ذلك النور بهتك ستر المنافق بتعريف نبيه والمؤمنين حقيقة أمره فيظهر له اسم النفاق بدل ما يظهر منه من اسم الإيمان فبقي في ظلمات لا يبصر إذ النور الذي كان له قبل قد كشف الله أمره فزال وسادسها أنهم لما وصفوا بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى عقب ذلك بهذا التمثيل ليمثل هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد والضلالة التي اشتروها وطبع بها على قلوبهم بذهاب الله بنورهم وتركه إياهم في الظلمات وسابعها يجوز أن يكون المستوقد ههنا مستوقد نار لا يرضاها الله تعالى والغرض تشبيه الفتنة التي حاول المنافقون إثارتها بهذه النار فإن الفتنة التي كانوا يثيرونها كانت قليلة البقاء ألا ترى إلى قوله تعالى كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ( المائدة ٦٤ ) وثامنها قال سعيد بن جبير نزلت في اليهود


الصفحة التالية
Icon