الوجه الثاني أنه تعالى لما بين أنه أوصل إلى الخلق أصناف الأشياء النافعة لهم في الدين والدنيا مثل آيتي الليل والنهار وغيرهما كان منعماً عليهم بأعظم وجوه النعم وذلك يقتضي وجوب اشتغالهم بخدمته وطاعته فلا جرم كل من ورد عرصة القيامة فإنه يكون مسؤولاً عن أعماله وأقواله
الوجه الثالث في تقرير النظم أنه تعالى لما بين أنه ما خلق الخلق إلا ليشتغلوا بعبادته كما قال وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات ٥٦ ) فلما شرح أحوال الشمس والقمر والليل والنهار كان المعنى إني إنما خلقت هذه الأشياء لتنتفعوا بها فتصيروا متمكنين من الاشتغال بطاعتي وخدمتي وإذا كان كذلك فكل من ورد عرصة القيامة سألته أنه هل أتى بتلك الخدمة والطاعة أو تمرد وعصى وبغى فهذا هو الوجه في تقرير النظم
المسألة الثانية في تفسير لفظ الطائر قولان
القول الأول أن العرب إذا أرادوا الإقدام على عمل من الأعمال وأرادوا أن يعرفوا أن ذلك العمل يسوقهم إلى خير أو إلى شر اعتبروا أحوال الطير وهو أنه يطير بنفسه أو يحتاج إلى ازعاجه وإذا طار فهل يطير متيامناً أو متياسراً أو صاعداً إلى الجو إلى غير ذلك من الأحوال التي كانوا يعتبرونها ويستدلون بكل واحد منها على أحوال الخير والشر والسعادة والنحوسة فلما كثر ذلك منهم سمي الخير والشر بالطائر تسمية للشيء باسم لازمه ونظيره قوله تعالى في سورة يس قَالُواْ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ ( يس ١٨ ) إلى قوله قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ ( يس ١٩ ) فقوله وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ أي كل إنسان ألزمناه عمله في عنقه وتدل على صحة هذا الوجه قراءة الحسن ومجاهد أَلْزَمْنَاهُ طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ
القول الثاني قال أبو عبيدة الطائر عند العرب الحظ وهو الذي تسميه الفرس البخت وعلى هذا يجوز أن يكون معنى الطائر ما طار له من خير وشر والتحقيق في هذا الباب أنه تعالى خلق الخلق وخص كل واحد منهم بمقدار مخصوص من العقل والعلم والعمر والرزق والسعادة والشقاوة والإنسان لا يمكنه أن يتجاوز ذلك القدر وأن ينحرف عنه بل لا بد وأن يصل إلى ذلك القدر بحسب الكمية والكيفية فتلك الأشياء المقدورة كأنها تطير إليه وتصير إليه فبهذا المعنى لا يبعد أن يعبر عن تلك الأحوال المقدرة بلفظ الطائر فقوله وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ كناية عن أن كل ما قدره الله تعالى ومضى في علمه حصوله فهو لازم له واصل إليه غير منحرف عنه
واعلم أن هذا من أدل الدلائل على أن كل ما قدره الله تعالى للإنسان وحكم عليه به في سابق علمه فهو واجب الوقوع ممتنع العدم وتقريره من وجهين
الوجه الأول أن تقدير الآية وكل إنسان ألزمناه عمله في عنقه فبين تعالى أن ذلك العمل لازم له وما كان لازماً للشيء كان ممتنع الزوال عنه واجب الحصول له وهو المقصود
والوجه الثاني أنه تعالى أضاف ذلك الإلزام إلى نفسه لأن قوله أَلْزَمْنَاهُ تصريح بأن ذلك الإلزام إنما صدر منه ونظيره قوله تعالى وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَة َ التَّقْوَى ( الفتح ٢٦ ) وهذه الآية دالة على أنه لا يظهر في الأبد إلا ما حكم الله به في الأزل وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام ( جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ) والله أعلم


الصفحة التالية
Icon