أحدها أن العمل بالفتوى عمل بالظن وهو جائز وثانيها العمل بالشهادة عمل بالظن وأنه جائز وثالثها الاجتهاد في طلب القبلة لا يفيد إلا الظن وأنه جائز ورابعها قيم المتلفات وأروش الجنايات لا سبيل إليها إلا بالظن وأنه جائز وخامسها الفصد والحجامة وسائر المعالجات بناء على الظن وأنه جائز وسادسها كون هذه الذبيحة ذبيحة للمسلم مظنون لا معلوم وبناء الحكم عليه جائز وسابعها قال تعالى وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مّنْ أَهْلِهَا ( النساء ٣٥ ) وحصول ذلك الشقاق مظنون لا معلوم وثامنها الحكم على الشخص المعين بكونه مؤمناً مظنون ثم نبني على هذا الظن أحكاماً كثيرة مثل حصول التوارث ومثل الدفن في مقابر المسلمين وغيرهما وتاسعها جميع الأعمال المعتبرة في الدنيا من الأسفار وطلب الأرباح والمعاملات إلى الآجال المخصوصة والاعتماد على صداقة الأصدقاء وعداوة الأعداء كلها مظنونة وبناء الأمر على تلك الظنون جائز وعاشرها قال عليه السلام ( نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر ) وذلك تصريح بأن الظن معتبر في هذه الأنواع العشرة فبطل قول من يقول إنه لا يجوز بناء الأمر على الظن
والجواب الثاني أن الظن قد يسمى بالعلم والدليل عليه قوله تعالى إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ( الممتحنة ١٠ ) ومن المعلوم أنه إنما يمكن العلم بأيمانهن بناء على اقرارهن وذلك لا يفيد إلا الظن فههنا الله تعالى سمى الظن علماً
والجواب الثالث أن الدليل القاطع لما دل على وجوب العمل بالقياس وكان ذلك الدليل دليلاً على أنه متى حصل ظن أن حكم الله في هذه السورة يساوي حكمه في محل النص فأنتم مكلفون بالعمل على وفق ذلك الظن فههنا الظن وقع في طريق الحكم فأما ذلك الحكم فهو معلوم متيقن
أجاب نفاة القياس عن السؤال الأول فقالوا قوله تعالى وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ عام دخله التخصيص في الصور العشرة المذكورة فيبقى هذا العموم فيما وراء هذه الصور حجة ثم نقول الفرق بين هذه الصور العشر وبين محل النزاع أن هذه الصور العشر مشتركة في أن تلك الأحكام أحكام مختصة بأشخاص معينين في أوقات معينة فإن الواقعة التي يرجع فيها الإنسان المعين إلى المعنى المعين واقعة متعلقة بذلك الشخص المعين وكذلك القول في الشهادة وفي طلب القبلة وفي سائر الصور والتنصيص على وقائع الأشخاص المعينين في الأوقات المعينة يجري مجرى التنصيص على ما لا نهاية له وذلك متعذر فلهذه الضرورة اكتفينا بالظن أما الأحكام المثبتة بالأقيسة فهي أحكام كلية معتبرة في وقائع كلية وهي مضبوطة قليلة والتنصيص عليها ممكن ولذلك فإن الفقهاء الذين استخرجوا تلك الأحكام بطريق القياس ضبطوها وذكروها في كتبهم
إذا عرفت هذا فنقول التنصيص على الأحكام في الصور العشر التي ذكرتموها غير ممكن فلا جرم اكتفى الشارع فيها بالظن أما المسائل المثبتة بالطرق القياسية التنصيص عليها ممكن فلم يجز الاكتفاء فيها بالظن فظهر الفرق
وأما الجواب الثاني وهو قولهم الظن قد يسمى علماً فنقول هذا باطل فإنه يصح أن يقال هذا مظنون وغير معلوم وهذا معلوم وغير مظنون وذلك يدل على حصول المغايرة ثم الذي يدل عليه قوله تعالى


الصفحة التالية
Icon