اعلم أنه ما خسر على الله أحد فإن إبراهيم عليه السلام لما اعتزلهم في دينهم وفي بلدهم واختار الهجرة إلى ربه إلى حيث أمره لم يضره ذلك ديناً ودنيا بل نفعه فعوضه أولاداً أنبياء ولا حالة في الدين والدنيا للبشر أرفع من أن يجعل الله له رسولاً إلى خلقه ويلزم الخلق طاعته والإنقياد له مع ما يحصل فيه من عظيم المنزلة في الآخرة فصار جعله تعالى إياهم أنبياء من أعظم النعم في الدنيا والآخرة ثم بين تعالى أنه مع ذلك وهب لهم من رحمته أي وهب لهم من النبوة ما وهب ويدخل فيه المال والجاه والأتباع والنسل الطاهر والذرية الطيبة ثم قال وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً ولسان الصدق الثناء الحسن وعبر باللسان عما يوجد باللسان كما عبر باليد عما يعطي باليد وهو العطية واستجاب الله دعوته في قوله وَاجْعَل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاْخِرِينَ ( الشعراء ٨٤ ) فصيره قدوة حتى ادعاه أهل الأديان كلهم وقال عز وجل مّلَّة َ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ ( الحج ٧٨ ) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا ( النحل ١٢٣ ) قال بعضهم إن الخليل اعتزل عن الخلق على ما قال وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ( مريم ٤٨ ) فلا جرم بارك الله في أولاده فقال وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً وثانيها أنه تبرأ من أبيه في الله تعالى على ما قال فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لاوَّاهٌ حَلِيمٌ ( التوبة ١١٤ ) لا جرم أن الله سماه أباً للمسلمين فقال مّلَّة َ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ وثالثها تل ولده للجبين ليذبحه على ما قال فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ( الصافات ١٠٣ ) لا جرم فداه الله تعالى على ما قال وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ( الصافات ١٠٧ ) ورابعها أسلم نفسه فقال أَسْلَمْتُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ ( البقرة ١٣١ ) فجعل الله تعالى النار عليه برداً وسلاماً فقال قُلْنَا ياذَا نَّارٍ كُونِى بَرْداً وَسَلَامَا عَلَى إِبْراهِيمَ ( الأنبياء ٦٩ ) وخامسها أشفق على هذه الأمة فقال رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ ( البقرة ١٢٩ ) لا جرم أشركه الله تعالى في الصلوات الخمس كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وسادسها في حق سارة في قوله وَإِبْراهِيمَ الَّذِى وَفَّى ( النجم ٣٧ ) لا جرم جعل موطىء قدميه مباركاً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى ( البقرة ١٢٥ ) وسابعها عادى كل الخلق في الله فقال فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ ( الشعراء ٧٧ ) لا جرم اتخذه الله خليلاً على ما قال وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً ( النساء ١٢٥ ) ليعلم صحة قولنا أنه ما خسر على الله أحد
( القصة الرابعة قصة موسى عليه السلام )
وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الاٌّ يْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً
اعلم أنه تعالى وصف موسى عليه السلام بأمور أحدها أنه كان مخلصاً فإذا قرىء بفتح اللام فهو من الإصطفاء والإختباء كأن الله تعالى اصطفاه واستخلصه وإذا قرىء بالكسر فمعناه أخلص لله في التوحيد في العبادة والإخلاص هو القصد في العبادة إلى أن يعبد المعبود بها وحده ومتى ورد القرآن بقراءتين فكل واحدة منهما ثابت مقطوع به فجعل الله تعالى من صفة موسى عليه السلام كلا الأمرين وثانيها كونه