هذا الطريق فلا جرم أجابهم إبراهيم عليه السلام بقوله لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمْ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ فبين أن الباطل لا يصير حقاً بسبب كثرة المتمسكين به فلما حقق عليه السلام ذلك عليهم ولم يجدوا من كلامه مخلصاً ورأوه ثابتاً على الإنكار قوى القلب فيه وكانوا يستبعدون أن يجري مثل هذا الإنكار عليهم مع كثرتهم وطول العهد بمذهبهم فعند ذلك قالوا له أَجِئْتَنَا بِالْحَقّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ موهمين بهذا الكلام أنه يبعد أن يقدم على الإنكار عليهم جاداً في ذلك فعنده عدل ( ﷺ ) إلى بيان التوحيد
قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ والأرض الَّذِى فطَرَهُنَّ وَأَنَاْ عَلَى ذالِكُمْ مِّنَ الشَّاهِدِينَ وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ قَالُواْ مَن فَعَلَ هَاذَا بِأالِهَتِنَآ إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ
اعلم أن القوم لما أوهموا أنه يمازح بما خاطبهم به في أصنامهم أظهر عليه السلام ما يعلمون به أنه مجد في إظهار الحق الذي هو التوحيد وذلك بالقول أولاً وبالفعل ثانياً أما الطريقة القولية فهي قوله بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ الَّذِى فطَرَهُنَّ وهذه الدلالة تدل على أن الخالق الذي خلقهما لمنافع العباد هو الذي يحسن أن يعبد لأن من يقدر على ذلك يقدر على أن يضر وينفع في الدار الآخرة بالعقاب والثواب فيرجع حاصل هذه الطريقة إلى الطريقة التي ذكرها لأبيه في قوله لاِبِيهِ ياأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً ( مريم ٤٢ ) قال صاحب ( الكشاف ) الضمير في فطرهن للسموات والأرض أو للتماثيل وكونه للتماثيل أدخل في الاحتجاج عليهم
أما قوله وَأَنَاْ عَلَى ذالِكُمْ مّنَ الشَّاهِدِينَ ففيه وجهان الأول أن المقصود منه المبالغة في التأكيد والتحقيق كقول الرجل إذا بالغ في مدح أحد أو ذمه أشهد أنه كريم أو ذميم والثاني أنه عليه السلام عنى بقوله وَأَنَاْ عَلَى ذالِكُمْ مّنَ الشَّاهِدِينَ ادعاء أنه قادر على إثبات ما ذكره بالحجة وأني لست مثلكم فأقول ما لا أقدر على إثباته بالحجة كما لم تقدروا على الاحتجاج لمذهبكم ولم تزيدوا على أنكم وجدتم عليه آباءكم وأما الطريقة الفعلية فهي قوله وَتَاللَّهِ لاكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ فإن القوم لما لم ينتفعوا بالدلالة العقلية عدل إلى أن أراهم عدم الفائدة في عبادتها وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) قرأ معاذ بن جبل رضي الله عنه وبالله وقرىء تولوا بمعنى تتولوا ويقويها قوله فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ فإن قلت ما الفرق بين الباء والتاء قلت إن الباء هي الأصل والتاء بدل من الواو المبدل منها والتاء فيها زيادة معنى وهو التعجب كأنه تعجب من تسهيل الكيد على يده لأن


الصفحة التالية
Icon