إعلم أنه سبحانه لما قال وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ( المؤمنون ١٠٠ ) ذكر أحوال ذلك اليوم فقال فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ وفيه ثلاثة أقوال أحدها أن الصور آلة إذا نفخ فيها يظهر صوت عظيم جعله الله تعالى علامة لخراب الدنيا ولإعادة الأموات روي عن رسول الله ( ﷺ ) أنه قرن ينفخ فيه وثانيها أن المراد من الصور مجموع الصور والمعنى فإذا نفخ في الصور أرواحها وهو قول الحسن فكان يقرأ بفتح الواو والفتح والكسر عن أبي رزين وهو حجة لمن فسر الصور بجمع صورة وثالثها أن النفخ في الصور استعارة والمراد منه البعث والحشر والأول أولى للخبر وفي قوله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى ( الزمر ٦٨ ) دلالة على أنه ليس المراد نفع الروح والإحياء لأن ذلك لا يتكرر
أما قوله فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ فمن المعلوم أنه سبحانه إذا أعادهم فالأنساب ثابتة لأن المعاد هو الولد والوالد فلا يجوز أن يكون المراد نفي النسب في الحقيقة بل المراد نفي حكمه وذلك من وجوه أحدها أن من حق النسب أن يقع به التعاطف والتراحم كما يقال في الدنيا أسألك بالله والرحم أن تفعل كذا فنفى سبحانه ذلك من حيث إن كل أحد من أهل النار يكون مشغولاً بنفسه وذلك يمنعه من الالتفات إلى النسب وهكذا الحال في الدنيا لأن الرجل متى وقع في الأمر العظيم من الآلام ينسى ولده ووالده وثانيها أن من حق النسب أن يحصل به التفاخر في الدنيا وأن يسأل بعضهم عن كيفية نسب البعض وفي الآخرة لا يتفرغون لذلك وثالثها أن يجعل ذلك استعارة عن الخوف الشديد فكل امرىء مشغول بنفسه عن بنيه وأخيه وفصيلته التي تؤويه فكيف بسائر الأمور قال ابن مسعود رضي الله عنه يؤخذ العبد والأمة يوم القيامة على رؤوس الأشهاد وينادي مناد ألا إن هذا فلان فمن له عليه حق فليأت إلى حقه فتفرح المرأة حينئذ أن يثبت لها حق على أمها أو أختها أو أبيها أو أخيها أو ابنها أو زوجها فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ وعن قتادة لا شيء أبغض إلى الإنسان يوم القيامة من أن يرى من يعرفه مخافة أن يثبت له عليه شيء ثم تلا يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ ( عبس ٣٤ ) وعن الشعبي قال قالت عائشة رضي الله عنها يا رسول الله أما نتعارف يوم القيامة أسمع الله تعالى يقول فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ فقال عليه الصلاة والسلام ( ثلاث مواطن تذهل فيها كل نفس حين يرمي إلى كل إنسان كتابه وعند الموازين وعلى جسر جهنم ) وطعن بعض الملحدة فقال قوله وَلاَ يَتَسَاءلُونَ وقوله وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ( المعارج ١٠ ) يناقض قوله وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ ( الصافات ٢٧ ) وقوله يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ ( يونس ٤٥ ) الجواب عنه من وجوه أحدها أن يوم القيامة مقداره خمسون ألف سنة ففيه أزمنة وأحوال مختلفة فيتعارفون ويتساءلون في بعضها ويتحيرون في بعضها لشدة الفزع وثانيها أنه إذا نفخ في الصور نفخة واحدة شغلوا بأنفسهم عن التساؤل فإذا نفخ فيه أخرى أقبل بعضهم على بعض وقالوا قَالُواْ ياوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ ( يس ٥٢ ) وثالثها المراد لا يتساءلون بحقوق النسب ورابعها أن قوله لاَ يَتَسَاءلُونَ صفة للكفار وذلك لشدة خوفهم


الصفحة التالية
Icon