صح ذلك لوقع الفساد في السموات والأرض على ما قررناه في دليل التمانع في قوله لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء ٢٢ ) والثاني أن أهواءهم في عبادة الأوثان وتكذيب محمد ( ﷺ ) وهما منشأ المفسدة والحق هو الإسلام فلو اتبع الإسلام قولهم لعلم الله حصول المفاسد عند بقاء هذا العالم وذلك يقتضي تخريب العالم وإفناءه والثالث أن آراءهم كانت متناقضة فلو اتبع الحق أهواءهم لوقع التناقض ولاختل نظام العالم عن القفال
أما قوله بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فقيل إنه القرآن والأدلة وقيل بل شرفهم وفخرهم بالرسول وكلا القولين متقارب لأن في مجيء الرسول بيان الأدلة وفي مجيء الأدلة بيان الرسول فأحدهما مقرون بالآخر وقيل الذكر هو الوعظ والتحذير وقيل هو الذي كانوا يتمنونه ويقولون لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مّنَ الاْوَّلِينَ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ( الصافات ١٦٨ ١٦٩ ) وقرىء بذكراهم ثم بين سبحانه أنه عليه الصلاة والسلام لا يطمع فيهم حتى يكون ذلك سبباً للنفرة فقال أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبّكَ خَيْرٌ وقرىء خراجاً قال أبو عمرو بن العلاء الخرج ما تبرعت به والخراج ما لزمك أداؤه والوجه أن الخرج أخص من الخراج كقولك خراج القرية وخرج الكردة زيادة اللفظ لزيادة المعنى ولذلك حسنت قراءة من قرأ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبّكَ يعني أم تسألهم على هدايتهم قليلاً من عطاء الخلق فالكثير من عطاء الخلق خير فنبه سبحانه بذلك على أن هذه التهمة بعيدة عنه فلا يجوز أن ينفروا عن قبول قوله لأجلها فنبه سبحانه بهذه الآيات على أنهم غير معذورين ألبته وأنهم محجوجون من جميع الوجوه قال الجبائي دل قوله تعالى وَهُوَ خَيْرُ الرزِقِينَ على أن أحداً من العباد لا يقدر على مثل نعمه ورزقه ولا يساويه في الإفضال على عباده ودل أيضاً على أن العباد قد يرزق بعضهم بعضاً ولولا ذلك لما جاز أن يقول وَهُوَ خَيْرُ الرزِقِينَ
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاٌّ خِرَة ِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّواْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
إعلم أنه سبحانه وتعالى لما زيف طريقة القوم أتبعه ببيان صحة ما جاء به الرسول ( ﷺ ) فقال وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ لأن ما دل الدليل على صحته فهو في باب الاستقامة أبلغ من الطريق المستقيم وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَة ِ عَنِ الصّراطِ لَنَاكِبُونَ أي لعادلون عن هذا الطريق لأن طريق الاستقامة واحدة وما يخالفه فكثير
أما قوله تعالى وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مّن ضُرّ ففيه وجوه أحدها المراد ضرر الجوع وسائر مضار الدنيا وثانيها المراد ضرر القتل والسبي وثالثها أنه ضرر الآخرة وعذابها فبين أنهم قد بلغوا في التمرد والعناد المبلغ الذي لا مرجع فيه إلى دار الدنيا وأنهم لَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ( الأنعام ٢٨ ) لشدة لجاجهم فيما هم عليه من الكفر


الصفحة التالية
Icon