اعلم أن فاتحة هذه القصة وفاتحة قصة نوح عليه السلام واحدة فلا فائدة في إعادة التفسير ثم إنه تعالى ذكر الأمور التي تكلم فيها هود عليه السلام معهم وهي ثلاثة فأولها قوله أَتَبْنُونَ بِكُلّ رِيعٍ ءايَة ً تَعْبَثُونَ قرىء بِكُلّ رِيعٍ بالكسر والفتح وهو المكان المرتفع ومنه قوله كم ريع أرضك وهو ارتفاعها والآية العلم ثم فيه وجوه أحدها عن ابن عباس أنهم كانوا يبنون بكل ريع علماً يعبئون فيه بمن يمر في الطريق إلى هود عليه السلام والثاني أنهم كانوا يبنون في الأماكن المرتفعة ليعرف بذلك غناهم تفاخراً فنهوا عنه ونسبوا إلى العبث والثالث أنهم كانوا ممن يهتدون بالنجوم في أسفارهم فاتخذوا في طريقهم أعلاماً طوالاً فكان ذلك عبثاً لأنهم كانوا مستغنين عنها بالنجوم الرابع بنوا بكل ريع بروج الحمام وثانيها قوله وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ المصانع مآخذ الماء وقيل القصور المشيدة والحصون لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ترجون الخلد في الدنيا أو يشبه حالكم حال من يخلد وفي مصحف أبي ( كأنكم ) وقرىء ( تخلدون ) بضم التاء مخففاً ومشدداً واعلم أن الأول إنما صار مذموماً لدلالته إما على السرف أو على الخيلاء والثاني إنما صار مذموماً لدلالته على الأمل الطويل والغفلة عن أن الدنيا دار ممر لا دار مقر وثالثها قوله وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ بين أنهم مع ذلك السرف والحرص فإن معاملتهم مع غيرهم معاملة الجبارين وقد بينا في غير هذا الموضع أن هذا الوصف في العباد ذم وإن كان في وصف الله تعالى مدحاً فكأن من يقدم على الغير لا على طريق الحق ولكن على طريق الاستعلاء يوصف بأن بطشه بطش جبار وحاصل الأمر في هذه الأمور الثلاثة أن اتخاذ الأبنية العالية يدل على حب العلو واتخاذ المصانع يدل على حب البقاء والجبارية تدل على حب التفرد بالعلو فيرجع الحاصل إلى أنهم أحبوا العلو وبقاء العلو والتفرد بالعلو وهذه صفات الإلهية وهي ممتنعة الحصول للعبد فدل ذلك على أن حب الدنيا قد استولى عليهم بحيث استغرقوا فيه


الصفحة التالية
Icon