فصاحته وأنه معجز لا يعارض بكلام مثله وانضم إلى ذلك بشارة كتب الله السالفة به فلم يؤمنوا به وجحدوه وسموه شعراً تارة وسحراً أخرى فلو نزلناه على بعض الأعجمين الذي لا يحسن العربية لكفروا به أيضاً ولتمحلوا لجحودهم عذراً ثم قال كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ أي مثل هذا السلك سلكناه في قلوبهم وهكذا مكناه وقررناه فيها وكيفما فعل بهم فلا سبيل إلى أن يتغيروا عما هم عليه من الجحود والإنكار وهذا أيضاً مما يفيد تسلية الرسول ( ﷺ ) لأنه إذا عرف رسول الله إصرارهم على الكفر وأنه قد جرى القضاء الأزلي بذلك حصل اليأس وفي المثل اليأس إحدى الراحتين
المسألة الرابعة قوله كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ يدل على أن الكل بقضاء الله وخلقه قال صاحب ( الكشاف ) أراد به أنه صار ذلك التكذيب متكمناً في قلوبهم أشد التمكن فصار ذلك كالشيء الجبلي والجواب أنه إما أن يكون قد فعل الله فيهم ما يقتضي رجحان التكذيب على التصديق أو ما فعل ذلك فيهم فإن كان الأول فقد دللنا في سورة الأنعام على أن الترجيح لا يتحقق ما لم ينته إلى حد الوجوب وحينئذ يحصل المقصود فإن لم يفعل فيهم ما يقتضي الترجيح ألبتة امتنع قوله كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ كما أن طيران الطائر لما لم يكن له تعلق بكفرهم امتنع إسناد الكفر إلى ذلك الطيران
المسألة الخامسة قال صاحب ( الكشاف ) فإن قلت ما موقع لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ من قوله سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ قلت موقعه منه موقع الموضح ( والمبين ) لأنه مسوق ( لبيانه مؤكد للجحود ) في قلوبهم فاتبع ما يقرر هذا المعنى من أنهم لا يزالون على التكذيب به حتى يعاينوا الوعيد
فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ مَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَة ٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ
اعلم أنه تعالى لما بين أنهم لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم وأنه يأتيهم العذاب بغتة أتبعه بما يكون منهم عند ذلك على وجه الحسرة فقال فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ كما يستغيث المرء عند تعذر الخلاص لأنهم يعلمون في الآخرة أن لا ملجأ لكنهم يذكرون ذلك استرواحاً
فأما قوله تعالى أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ فالمراد أنه تعالى بين أنهم كانوا في الدنيا يستعجلون العذاب مع أن حالهم عند نزول العذاب طلب النظرة ليعرف تفاوت الطريقين فيعتبر به ثم بين تعالى أن استعجال العذاب على وجه التكذيب إنما يقع منهم ليتمتعوا في الدنيا إلا أن ذلك جهل وذلك لأن مدة التمتع في الدنيا متناهية قليلة ومدة العذاب الذي يحصل بعد ذلك غير متناهية وليس في العقل ترجيح لذات متناهية


الصفحة التالية
Icon