نعرف بالدليل أن هذا العالم له صانع والعجب أن جماعة اعتمدوا في نفي كثير من الأشياء على أن قالوا لا دليل عليه فوجب نفيه قالوا وإنما قلنا إنه لا دليل لأنا بحثنا وسبرنا فلم نجد عليه دليلاً فرجع حاصل كلامهم بعد التحقيق إلى أن كل ما لا يعرف عليه دليل وجب نفيه وإن فرعون لم يقطع بالنفي بل قال لا دليل عليه فلا أثبته بل أظنه كاذباً في دعواه ففرعون على نهاية جهله أحسن حالاً من هذا المستدل أما الثاني وهو إثباته إلهية نفسه فاعلم أنه ليس المراد منه أنه كان يدعي كونه خالقاً للسموات والأرض والبحار والجبال وخالقاً لذوات الناس وصفاتهم فإن العلم بامتناع ذلك من أوائل العقول فالشك فيه يقتضي زوال العقل بل الإله هو المعبود فالرجل كان ينفي الصانع ويقول لا تكليف على الناس إلا أن يطيعوا ملكهم وينقادوا لأمره فهذا هو المراد من ادعائه الإلهية لا ما ظنه الجمهور من ادعائه كونه خالقاً للسماء والأرض لا سيما وقد دللنا في سورة طه ( ٤٩ ) في تفسير قوله فَمَن رَّبُّكُمَا يامُوسَى مُوسَى على أنه كان عارفاً بالله تعالى وأنه كان يقول ذلك ترويجاً على الأغمار من الناس الشبهة الثانية قوله فَأَوْقِدْ لِى ياهَامَانُ ياهَامَانُ عَلَى الطّينِ فَاجْعَل لّى صَرْحاً لَّعَلّى أَطَّلِعُ إِلَى إِلَاهِ مُوسَى وَإِنّى لاظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ وههنا أبحاث
الأول تعلقت المشبهة بهذه الآية في أن الله تعالى في السماء قالوا لولا أن موسى عليه السلام دعاه إلى ذلك لما قال فرعون هذا القول والجواب أن موسى عليه السلام دل فرعون بقوله رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الشعراء ٢٤ ) ولم يقل هو الذي في السماء دون الأرض فأوهم فرعون أنه يقول إن إلهه في السماء وذلك أيضاً من خبث فرعون ومكره ودهائه
الثاني اختلفوا في أن فرعون هل بنى هذا الصرح فال قوم إنه بناه قالوا إنه لما أمر ببناء الصرح جمع هامان العمال حتى اجتمع خمسون ألف بناء سوى الأتباع والأجراء وأمر بطبخ الآجر والجص ونجر الخشب وضرب المسامير فشيدوه حتى بلغ ما لم يبلغه بنيان أحد من الخلق فبعث الله تعالى جبريل عليه السلام عند غروب الشمس فضربه بجناحه فقطعه ثلاث قطع قطعة وقعت على عسكر فرعون فقتلت ألف ألف رجل وقطعة وقعت في البحر وقطعة في المغرب ولم يبق أحد من عماله إلا وقد هلك ويروى في هذه القصة أن فرعون ارتقى فوقه ورمى بنشابة نحو السماء فأراد الله أن يفتنهم فردت إليهم وهي ملطوخة بالدم فقال قد قتلت إله موسى فعند ذلك بعث الله تعالى جبريل عليه السلام لهدمه ومن الناس من قال إنه لم يبن ذلك الصرح لأنه يبعد من العقلاء أن يظنوا أنهم بصعود الصرح يقربون من السماء مع علمهم بأن من على أعلى الجبال الشاهقة يرى السماء كما كان يراها حين كان على قرار الأرض ومن شك في ذلك خرج عن حد العقل وهكذا القول فيما يقال من رمى السهم إلى السماء ورجوعه متلطخاً بالدم فإن كل من كان كامل العقل يعلم أنه لا يمكنه إيصال السهم إلى السماء وأن من حاول ذلك كان من المجانين فلا يليق بالعقل والدين حمل القصة التي حكاها الله تعالى في القرآن على محمل يعرف فساده بضرورة العقل فيصير ذلك مشرعاً قوياً لمن أحب الطعن في القرآن فالأقرب أنه كان أوهم البناء ولم يبن أو كان هذا من تتمة قوله مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرِى يعني لا سبيل إلى إثباته بالدليل فإن حركات الكواكب كافية في تغير هذا العالم ولا سبيل إلى إثباته بالحس فإن الإحساس به لا يمكن إلا بعد صعود السماء وذلك مما لا سبيل إليه ثم قال عند ذلك لهامان ابْنِ لِى صَرْحاً أَبْلُغُ بِهِ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ وإنما قال ذلك على سبيل التهكم فبمجموع هذه الأشياء قرر أنه لا دليل على الصانع ثم إنه رتب النتيجة عليه فقال وَإِنّى لاظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ


الصفحة التالية
Icon