فهذا التأويل أولى مما عداه
الثالث إنما قال غَيْرِى فَأَوْقِدْ لِى ياهَامَانُ عَلَى الطّينِ ولم يقل اطبخ لي الآجر واتخذه لأنه أول من عمل الآجر فهو يعلمه الصنعة ولأن هذه العبارة أليق بفصاحة القرآن وأشبه بكلام الجبابرة وأمر هامان وهو وزيره بالإيقاد على الطين فنادى باسمه بيافي وسط الكلام دليل على التعظم والتجبر والطلوع والاطلاع الصعود يقال طلع الجبل واطلع بمعنى واحد
أما قوله وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِى الاْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ فاعلم أن الاستكبار بالحق إنما هو لله تعالى وهو المتكبر في الحقيقة أي المبالغ في كبرياء الشأن قال عليه السلام فيما حكى عن ربه ( الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحداً منهما ألقيته في النار ) وكل مستكبر سواه فاستكباره بغير الحق
المسألة الثانية قال الجبائي الآية تدل على أنه تعالى ما أعطاه الملك وإلا لكان ذلك بحق وهكذا كل متغلب لا كما ادعى ملوك بني أمية عند تغلبهم أن ملكهم من الله تعالى فإن الله تعالى قد بين في كل غاصب لحكم الله أنه أخذ ذلك بغير حق واعلم أن هذا ضعيف لأن وصول ذلك الملك إليه إما أن يكون منه أو من الله تعالى أو لا منه ولا من الله تعالى فإن كان منه فلم لم يقدر عليه غيره فربما كان العاجز أقوى وأعقل بكثير من المتولي للأمر وإن كان من الله تعالى فقد صح الغرض وإن كان من سائر الناس فلم اجتمعت دواعي الناس على نصرة أحدهما وخذلان الآخر واعلم أن هذا أظهر من أن يرتاب فيه العاقل
أما قوله وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ فهذا يدل على أنهم كانوا عارفين بالله تعالى إلا أنهم كانوا ينكرون البعث فلأجل ذلك تمردوا وطغوا
أما قوله فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِى الْيَمّ فهو من الكلام المفحم الذي دل به على عظم شأنه وكبرياء سلطانه شبههم استحقاراً لهم واستقلالاً لعددهم وإن كانوا الكبير الكثير والجم الغفير بحصيات أخذهن آخذ في كفه فطرحهن في البحر ونحو ذلك وقوله وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِى َ شَامِخَاتٍ ( المرسلات ٢٧ ) وَحُمِلَتِ الاْرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّة ً واحِدَة ً ( الحاقة ١٤ ) وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالاْرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَالسَّمَاواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ( الزمر ٦٧ ) سبحانه وتعالى وليس الغرض منه إلا تصوير أن كل مقدور وإن عظم فهو حقير بالقياس إلى قدرته
أما قوله وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّة ً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ فقد تمسك به الأصحاب في كونه تعالى خالقاً للخير والشر قال الجبائي المراد بقوله وَجَعَلْنَاهُمْ أي بينا ذلك من حالهم وسميناهم به ومنه قوله وَجَعَلُواْ الْمَلَئِكَة َ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً ( الزخرف ١٩ ) وتقول أهل اللغة في تفسير فسقه وبخله جعله فاسقاً وبخيلاً لا أنه خلقهم أئمة لأنهم حال خلقهم لهم كانوا أطفالاً وقال الكعبي إنما قال وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّة ً من حيث خلى بينهم وبين ما فعلوه ولم يعاجل بالعقوبة ومن حيث كفروا ولم يمنعهم بالقسر وذلك كقوله فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا ( التوبة ١٢٥ ) لما زادوا عندها ونظير ذلك أن الرجل يسأل ما يثقل عليه وإن أمكنه فإذا


الصفحة التالية
Icon