لأن التوجه إلى الشيء قبل الوصول وقوله أسلمت وجهي لك يفيد الاختصاص ولا ينبىء عن الغاية التي تدل على المسافة وقطعها للوصول إذا علم هذا فنقول في البقرة قالت اليهود والنصارى لَن يَدْخُلَ الْجَنَّة َ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ( البقرة ١١١ ) فقال الله رداً عليهم تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ ( البقرة ١١١ ) ثم بين فساد قولهم بقوله تعالى بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ أي أنتم مع أنكم تتركون الله للدنيا وتولون عنه للباطل وتشترون بآياته ثمناً قليلاً تدخلون ( النار ) ومن كان بكليته لله لا يدخلها هذا كلام باطل فأورد عليهم من أسلم لله ولا شك أن النقض بالصورة التي هي ألزم أولى فأورد عليهم المخلص الذي ليس له أمر إلا الله وقال أنتم تدخلون الجنة وهذا لا يدخلها ثم بين كذبهم وقال بلى وبين أن له فوق الجنة درجة وهي العندية بقوله فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبّهِ وأما ههنا أراد وعد المحسن بالثواب والوصول إلى الدرجة العالية فوعد من هو دونه ليدخل فيه من هو فوقه بالطريق الأولى ويعم الوعد وهذا من الفوائد الجليلة ثم قال تعالى فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَة ِ الْوُثْقَى أوثق العرى جانب الله لأن كل ما عداه هالك منقطع وهو باق لا انقطاع له ثم قال تعالى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَة ُ الاْمُورِ يعني استمسك بعروة توصله إلى الله وكل شيء عاقبته إليه فإذا حصل في الحال ما إليه عاقبته في عاقبته في غاية الحسن وذلك لأن من يعلم أن عاقبة الأمور إلى واحد ثم يقدم إليه الهدايا قبل الوصول إليه يجد فائدته عند القدوم عليه وإلى هذا وقعت الإشارة بقوله وَمَا تُقَدّمُواْ لانْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ ( البقرة ١١٠ )
وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ
لما بين حال المسلم رجع إلى بيان حال الكافر فقال وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ أي لا تحزن إذا كفر كافر فإن من يكذب وهو قاطع بأن صدقه يتبين عن قريب لا يحزن بل قد يؤنب المكذب على الزيادة في التكذيب إذا لم يكن من الهداة ويكون المكذب من العداة ليخجله غاية التخجيل وأما إذا كان لا يرجو ظهور صدقه يتألم من التكذيب فقال فلا يحزنك كفره فإن المرجع إلي فأنبئهم بما عملوا فيخجلون وقوله إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أي لا يخفى عليه سرهم وعلانيتهم فينبئهم بما أضمرته صدورهم وذات الصدور هي المهلك ثم إن الله تعالى فصل ما ذكرنا وقال نُمَتّعُهُمْ قَلِيلاً أي بقاؤهم مدة قليلة ثم بين لهم وبال تكذيبهم وكفرهم بقوله ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ أي نسلط عليهم أغلظ عذاب حتى يدخلوا بأنفسهم عذاباً غليظاً فيضطرون إلى عذاب النار فراراً من الملائكة الغلاظ الشداد الذين يعذبونهم بمقامع من نار وفيه وجه آخر لطيف وهو أنهم لما كذبوا الرسل ثم تبين لهم الأمر وقع عليهم من الخجالة ما يدخلون النار ولا يختارون الوقوف بين يدي ربهم بمحضر الأنبياء وهو يتحقق بقوله تعالى فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ


الصفحة التالية
Icon