الإدراك والمعرفة والاستغارق في معرفة الله تعالى والثناء عليه وإليه الإشارة بقوله تعالى فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً ولما كان الجسم أدنى منزلة من الأرواح المستقلة فالتصرف في الجسمانيات أدون منزلة من الأرواح المستغرقة في معرفة جلال الله المقبلة على تسبيح الله كما قال وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ( الأنبياء ١٩ ) لا جرم بدأ في المرتبة الأولى بذكر الأجسام فقال وَالصَّافَّاتِ صَفَّا ثم ذكر في المرتبة الثانية الأرواح المدبرة لأجسام هذا العالم ثم ذكر في هذه المرتبة الثالثة أعلى الدرجات وهي الأرواح المقدسة المتوجهة بكليتها إلى معرفة جلال الله والاستغراق في الثناء عليه فهذه احتمالات خطرت بالبال والعالم بأسرار كلام الله تعالى ليس إلا الله
المسألة الثالثة للناس في هذا الموضع قولان الأول قول من يقول المقسم به ههنا خالق هذه الأشياء لا أعيان هذه الأشياء واحتجوا عليه بوجوه الأول أنه ( ﷺ ) نهى عن الحلف بغير الله فكيف يليق بحكمة الله أن يحلف بغير الله والثاني أن الحلف بالشيء في مثل هذا الموضع تعظيم عظيم للمحلوف به ومثل هذا التعظيم وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا وَالاْرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ( الشمس ٥ ٧ ) والقول الثاني قول من يقول إن القسم واقع بأعيان هذه الأشياء واحتجوا عليه بوجوه الأول أن القسم وقع بهذه الأشياء بحسب ظاهر اللفظ فالعدول عنه خلال الدليل والثاني أنه تعالى قال وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا فعلق لفظ القسم بالسماء ثم عطف عليه القسم بالباني للسماء فلو كان المراد من القسم بالسماء القسم بمن بنى السماء لزم التكرار في موضع واحد وأنه لا يجوز الثالث أنه لا يبعد أن تكون الحكمة في قسم من الله تعالى بهذه الأشياء التنبيه على شرف ذواتها وكمال حقائقها لا سيما إذا حملنا هذه الألفاظ على الملائكة فإنه تكون الحكمة في القسم بها التنبيه على جلالة درجاتها وكمال مراتبها والله أعلم فإن قيل ذكر الحلف في هذا الموضع غير لائق وبيانه من وجوه الأول أن المقصود من هذا القسم إما إثبات هذا المطلوب عند المؤمن أوعند الكافر والأول باطل لأن المؤمن مقر به سواء حصل الحلف أو لم يحصل فهذا الحلف عديم الفائدة على كل التقديرات الثاني أنه تعالى حلف في أول هذه السورة على أن الإله واحد وحلف في أول سورة والذاريات على أن القيامة حق فقال وَالذرِيَاتِ ذَرْواً إلى قوله إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدّينَ لَوَاقِعٌ ( الذاريات ١ ٦ ) وإثبات هذه المطالب العالية الشريفة على المخالفين من الدهرية وأمثالهم بالحلف واليمين لا يليق بالعقلاء والجواء من وجوه الأول أنه تعالى قرر التوحيد وصحة البعث والقيامة في سائر السور بالدلائل اليقينية فلما تقدم ذكر تلك الدلائل لم يبعد تقريرها فذكر القسم تأكيداً لما تقدم لا سيما والقرآن إنما أنزل بلغة العرب وإثبات المطالب بالحلف واليمين طريقة مألوفة عند العرب والوجه الثاني في الجواب أنه تعالى لما أقسم بهذه الأشياء على صحة قوله تعالى إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ ذكر عقيبه ما هو كالدليل اليقيني في كون الإله واحداً وهو قوله تعالى رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ وذلك لأنه تعالى بين في قوله لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء ٢٢ ) أن انتظام أحوال السموات والأرض يدل على أن الإله واحد ففهنا لما قال إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ أردفه بقوله رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ كأنه قيل قد بينا أن النظر في انتظام هذا العالم دل على كون الإله واحداً فتأملوا في ذلك الدليل ليحصل لكم العلم بالتوحيد الوجه الثالث في الجواب أن المقصود من هذا


الصفحة التالية
Icon