في الآية مسائل
المسألة الأولى في بيان النظم اعلم أنا قد ذكرنا أن المقصد الأقصى من هذا الكتاب الكريم إثبات الأصول الأربعة وهي الإلهيات والمعاد والنبوة وإثبات القضاء والقدر فنقول إنه تعاى افتتح هذه السورة بإثبات ما يدل على وجود الصانع ويدل على وحدانيته وهو خلق السموات والأرض وما بينهما وخلق المشارق والمغارب فلما أحكم الكلام في هذا الباب فرع عليها إثبات القول بالحشر والنشر والقيامة
واعلم أن الكلام في هذه المسألة يتعلق بطرفين أولهما إثبات الجواز العقلي وثانيهما إثبات الوقوع أما الكلام في المطلوب الأول فاعلم أن الاستدلال على الشيء يقع على وجهين أحدهما أن يقال إنه قدر على ما هو أصعب وأشد وأشق منه فوجب أيضاً أن يقدر عليه والثاني أن يقال إنه قدر عليه في إحدى الحالتين والفاعل والقابل باقيين كما كانا فوجب أن تبقى القدرة عليه في الحالة الثانية والله تعالى ذكر هذين الطريقين في بيان أن القول بالبعث والقيامة أمر جائز ممكن أما الطريق الأول فهو المراد من قوله فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً والتقدير كأنه تعالى يقول استفت يا محمد هؤلاء المنكرين أهم أشد خلقاً من خلق السموات والأرض وما بينهما وخلق المشارق والمغارب وخلق الشياطين الذين يصعدون الفلك ولا شك أنهم يعترفون بأن خلق هذا القسم أشق وأشد في العرف من خلق القسم الأول فلما ثبت بالدلائل المذكورة في إثبات التوحيد كونه تعالى قادراً على هذا القسم الذي هو أشد وأصعب فبأن يكون قادراً على إعادة الحياة في هذه الأجساد كان أولى ونظير هذه الدلالة قوله تعالى في آخر يس أَوَلَيْسَ الَذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم ( يس ٨١ ) وقوله تعالى لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ( غافر ٥٧ ) وأما الطريق الثاني فهو المراد من قوله إِنَّا خَلَقْنَاهُم مّن طِينٍ لاَّزِبٍ والمعنى أن هذه الأجسام قابلة للحياة إذ لو لم تكن قابلة للحياة لما صارت حية في المرة الأولى والإله قادر على خلق هذه الحياة في هذه الأجسام ولولا كونه تعالى قادراً على هذا المعنى لما حصلت الحياة في المرة الأولى ولا شك أن قابلية تلك الأجسام باقية وأن قادرية الله تعالى باقية لأن هذه القابلية وهذه القادرية من الصفات الذاتية فامتنع زوالها فثبت بهذين الطريقين أن القول بالبعث والقيامة أمر ممكن ولما بين تعالى إمكان هذا المعنى بهذين الطريقين بين وقوعه بقوله قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ داخِرُونَ ( الصافات ١٨ ) وذلك لأنه ثبت صدق الرسول ( ﷺ ) لأجل ظهور المعجزات عليه والصادق إذا أخبر عن أمر ممكن الوقوع وجب الاعتراف بوقوعه فهذا تقرير نظم هذه الآية وهو في غاية الحسن والله أعلم
المسألة الثانية في تفسير ألفاظ هذه الآية أما قوله فَاسْتَفْتِهِمْ يعني أنه لما ثبت بالدلائل القاطعة كونه تعالى خالقاً للسموات والأرض وما بينهما فاستفت هؤلاء المنكرين وقل لهم أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أم هذه الأشياء التي بينا كونه تعالى خالقاً لها ولم يحك عنهم أنهم أقروا أن خلق هذه الأشياء أصعب لأجل أن ظهور ذلك كالمعلوم بالضرورة فلا حاجة أن يحكى عنهم صحة أن الأمر كذلك
ثم قال تعالى إِنَّا خَلَقْنَاهُم مّن طِينٍ لاَّزِبٍ يعني أنا لما قدرنا على خلق الحياة في ذواتهم أولاً وجب أن نبقى قادرين على خلق الحياة فيهم ثانياً لما بينا أن حال القابل وحال الفاعل ممتنع التغير وفيه دقيقة أخرى وهي أن القوم قالوا كيف يعقل تولد الإنسان لا من النطفة ولا من الأبوين فكأنه قيل لهم إنكم لما


الصفحة التالية
Icon