اعلم أن الله تعالى لما مدحه وأثنى عليه من الوجوه العشرة أردفه بذكر قصة ليبين بها أن الأحوال الواقعة في هذه القصة لا يبين شيء منها كونه عليه السلام مستحقاً للثناء والمدح العظيم
أما قوله تعالى وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُا الْخَصْمِ فهو نظير قوله تعالى هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ( طه ٩ ) وفائدة هذا الاستفهام التنبيه على جلالة القصة المستفهم عنها ليكون داعياً إلى الإصغاء لها والاعتبار بها وأقول للناس في هذه القصة ثلاثة أقوال أحدها ذكر هذه القصة على وجه يدل على صدور الكبيرة عنه وثانيها دلالتها على الصغيرة وثالثها بحيث لا تدل على الكبيرة ولا على الصغيرة
فأما القول الأول فحاصل كلامهم فيها أن داود عشق امرأة أوريا فاحتال بالوجوه الكثيرة حتى قتل زوجها ثم تزوج بها فأرسل الله إليه ملكين مفي صورة المتخاصمين في واقعة شبيهة بواقعته وعرضا تلك الواقعة عليه فحكم داود بحكم لزم منه اعترافه بكونه مذنباً ثم تنبه لذلك فاشتغل بالتوبة
والذي أدين به وأذهب إليه أن ذلك باطل ويدل عليه وجوه الأول أن هذه الحكاية لو نسبت إلى أفسق الناس وأشدهم فجوراً لا ستنكف منها والرجل الحشوي الخبيث الذي يقرر تلك القصة لو نسب إلى مثل هذا العمل لبالغ في تنزيه نفسه وربما لعن من ينسبه إليها وإذا كان الأمر كذلك فكيف يليق بالعاقل نسبة المعصوم إليه الثاني أن حاصل القصة يرجع إلى أمرين إلى السعي في قتل رجل مسلم بغير حق وإلى الطمع في زوجته أما الأول فأمر منكر قال ( ﷺ ) ( من سعى في دم مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة الله ) وأما الثاني فمنكر عظيم قال ( ﷺ ) ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ) وإن أوريا لم يسلم من داود لا في روحه ولا في منكوحه والثالث أن الله تعالى وصف داود عليه السلام قبل ذكر هذه القصة بالصفات العشرة المذكورة ووصفه أيضاً بصفات كثيرة بعد ذكر هذه القصة وكل هذه الصفات تنافي كونه عليه السلام موصوفاً بهذا الفعل المنكر والعمل القبيح ولا بأس بإعادة هذه الصفات لأجل المبالغة في البيان
فنقول أما الصفات الأولى فهي أنه تعالى أمر محمداً ( ﷺ ) بأن يقتدي بداود في المصابرة مع المكابدة ولو قلنا إن داود لم يصبر على مخالفة النفس بل سعي في إراقة دم امرىء مسلم لغرض شهوته فكيف يليق بأحكم الحاكمين أن يأمر محمداً أفضل الرسل بأن يقتدي بداود في الصبر على طاعة الله
وأما الصفة الثانية فهي أن وصفه بكونه عبداً له وقد بينا أن المقصود من هذا الوصف بيان كون ذلك الموصوف كاملاً في موقف العبودية تاماً في القيام بأدار الطاعات والاحتراز عن المحظورات ولو قلنا إن داود عليه السلام اشتغل بتلك الأعمال الباطلة فحينئذٍ ما كان داود كاملاً في عبوديته لله تعالى بل كان كاملاً في طاعة الهوى والشهوة
الثفة الثالثة هو قوله ذَا الاْيْدِ ( ص ١٧ ) أي ذا القوة ولا شك أن المراد منه القوة في الدين لأن القوة في غير الدين كانت موجودة في ملوك الكفار ولا معنى للقوة في الدين إلا القوة الكاملة على أداء الواجبات


الصفحة التالية
Icon