إذا عرفت هذه الروايات فهؤلاء قالوا المراد من قوله وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ أن الله تعالى ابتلاه وقوله وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيّهِ جَسَداً هو جلوس ذلك الشيطان على كرسيه
والرواية الرابعة أنه كان سبب فتنته احتجابه عن الناس ثلاثة أيام فسلب ملكه وألقى على سريره شيطان عقوبة له
واعلم أن أهل التحقيق استبعدوا هذا الكلام من وجوه الأول أن الشيطان لو قدر على أن يتشبه بالصورة والخلقة بالأنبياء فحينئذ لا يبقى اعتماد على شيء من الشرائع فلعل هؤلاء الذين رآهم الناس في صورة محمد وعيسى وموسى عليهم السلام ما كانوا أولئك بل كانوا شياطين تشبهوا بهم في الصورة لأجل الإغواء والإضلال ومعلوم أن ذلك يبطل الدين بالكلية الثاني أن الشيطان لو قدر على أن يعامل نبي الله سليمان بمثل هذه المعاملة لوجب أن يقدر على مثلها مع جميع العلماء والزهاد وحينئذ وجب أن يقتلهم وأن يمزق تصانيفهم وأن يخرب ديارهم ولما بطل ذلك في حق آحاد العلماء فلأن يبطل مثله في حق أكابر الأنبياء أولى والثالث كيف يليق بحكمة الله وإحسانه أن يسلط الشيطان على أزواج سليمان ولا شك أنه قبيح الرابع لو قلنا إن سليمان أذن لتلك المرأة في عبادة تلك الصورة فهذا كفر منه وإن لم يأذن فيه ألبتة فالذنب على تلك المرأ فكيف يؤاخذ الله سليمان بفعل لم يصدر عنه فأما الوجوه التي ذكرها أهل التحقيق في هذا الباب فأشياء الأول أن فتنة سليمان أنه ولد له ابن فقالت الشياطين إن عاش صار مسلطاً علينا مثل أبيه فسبيلنا أن نقتله فعلم سليمان ذلك فكان يربيه في السحاب فبينما هو مشتغل بمهماته إذ ألقى ذلك الولد ميتاً على ركسيه فتنبه على خطيئته في أنه لم يتوكل فيه على الله فاستغفر ربه وأناب الثاني روي عن النبي ( ﷺ ) أنه قال ( قال سليمان لأطوفن الليلة على سبعين امرأة كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ولم يقل إن شاء الله فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل فجيء به على كرسيه فوضع في حجره فوالذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا كلهم في سبيل الله فرساناً أجمعون فذلك قوله وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ الثالث قوله وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ بسبب مرض شديد ألقاه الله عليه وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيّهِ منه جَسَداً وذلك لشدة المرض والعرب تقول في الضعيف إنه لحم على وضع وجسم بلا روح ثُمَّ أَنَابَ أي رجع إلى حال الصحة فاللفظ محتمل لهذه الوجوه ولا حاجة ألبتة إلى حمله على تلك الوجوه الركيكة الرابع أقول لا يبعد أيضاً أن يقال إنه ابتلاه الله تعالى بتلسيط خوف أو توقع بلاء من بعض الجهات عليه وصار بسبب قوة ذلك الخوف كالجسد الضعيف الملقى على ذلك الكرسي ثم إنه أزال الله عنه ذلك الخوف وأعاد إلى ما كان عليه من القوة وطيب القلب
أما قوله تعالى قَالَ رَبّ اغْفِرْ لِى فاعلم أن الذين حملوا الكلام المتقدم على صدور الزلة منه تمسكوا بهذه الآية فإنه لولا تقدم الذنب لما طلب المغفرة ويمكن أن يجاب عنه بأن الإنسان لا ينفك ألبتة عن ترك الأفضل والأولى وحينئذ يحتاج إلى طلب المغفرة لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين ولأنهم أبداً في مقام هضم النفس وإظهار الذلة والخضوع كما قال ( ﷺ ) ( إني لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة ) ولا يبعد أن يكون المراد من هذه الكلمة هذا المعنى والله أعلم
ثم قال تعالى وَهَبْ لِى مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى دلت هذه الآية على أنه يجب تقديم مهم


الصفحة التالية
Icon