الدين على مهم الدنيا لأن سليمان طلب المغفرة أولاً ثم بعده طلب المملكة وأيضاً الآية تدل على أن طلب المغفرة من الله تعالى سبب لانفتاح أبواب الخيرات في الدنيا لأن سليمان طلب المغفرة أولاً ثم توسل به إلى طلب المملكة ونوح عليه السلام هكذا فعل أيضاً لأنه تعالى حكى عنه أنه قال فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ ( نوح ١٠ ١٢ ) وقال لمحمد ( ﷺ ) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلواة ِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ فإن قيل قوله عليه السلام مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى مشعر بالحسد والجواب عنه أن القائلين بأن الشيطان استولى على مملكته قالوا معنى قوله لا ينبغي لأحد من بعدي هو أن يعطيه الله ملكاً لا تقدر الشياطين أن يقوموا مقامه ألبتة فأما المنكرون لذلك فقد أجابوا عنه من وجوه الأول أن الملك هو القدرة فكان المراد أقدرني على أشياء لا يقدر عليها غيري ألبتة ليصير اقتداري عليها معجزة تدل على صحة نبوتي ورسالتي والدليل على صحة هذا الكلام أنه تعالى قال الْوَهَّابُ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرّيحَ تَجْرِى بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ فكون الريح جارياً بأمره قدرة عجيبة وملك عجيب ولا شك أنه معجزة دالة على نبوته فكان قوله هَبْ لِى مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى هو هذا المعنى لأن شرط المعجزة أن لا يقدر غيره على معارضتها فقوله لاَّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى يعني لا يقدر أحد على معارضته والوجه الثاني في الجواب أنه عليه السلام لما مرض ثم عاد إلى الصحة عرف أن خيرات الدنيا صائرة إلى الغير بإرث أو بسبب آخر فسأل ربه ملكاً لا يمكن أن ينتقل منه إلى غيره وذلك الذي سأله بقوله مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى أي ملكاً لا يمكن أن ينتقل عني إلى غيري الوجه الثالث في الجواب أن الاحتراز عن طيبات الدنيا مع القدرة عليها أشق من الاحتراز عنها حال القدرة عليها فكأنه قال يا إلهي أعطني مملكة فائقة على ممالك البشر بالكلية حتى أحترز عنها مع القدرة عليها ليصير ثوابي أكمل وأفضل الوجه الرابع من الناس من يقول إن الاحتراز عن لذات الدنيا عسر صعب لأن هذه اللذات حاضرة وسعادات الآخرة نسيئة والنقد يصعب بيعه بالنسيئة فقال سليمان أعطني يا رب مملكة تكون أعظم الممالك الممكنة للبشر حتى أني أبقى مع تلك القدرة الكاملة في غاية الاحتراز عنها ليظهر للخلق أن حصول الدنيا لا يمنع من خدمة المولى الوجه الخامس أن من لم يقدر على الدنيا يبقى ملتفت القلب إليها فيظن أن فيها سعادات عظيمة وخيرات نافعة فقال سليمان يا رب العزة أعظني أعظم الممالك حتى يقف الناس على كمال حالها فحينئذ يظهر للعقل أنه ليس فيها فائدة وحينئذ يعرض القلب عنها ولا يلتفت إليها وأشتغل بالعبودية ساكن النفس غير مشغول القلب بعلائق الدنيا ثم قال فَسَخَّرْنَا لَهُ الرّيحَ تَجْرِى بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ رخاء أي رخوة لينة وهي من الرخاوة والريح إذا كانت لينة لا تزعزع ولا تمتنع عليه كانت طيبة فإن قيل أليس أنه تعالى قال في آية أخرى وَلِسُلَيْمَانَ الرّيحَ عَاصِفَة ً تَجْرِى بِأَمْرِهِ قلنا الجواب من وجهين الأول لا منافاة بين الآيتين فإن المراد أن تلك الريح كانت في قوة الرياح العاصة إلا أنها لما جرت بأمره كانت لذيذة طيبة فكانت رخاء والوجه الثاني من الجواب أن تلك الريح كانت لينة مرة وعاصفة أخرى ولا منافاة بين الأمرين وقوله تعالى حَيْثُ أَصَابَ أي قصد وأراد وحكى الأصمعي عن العرب أنهم يقولون أصاب الصواب فأخطأ الجواب وعن رؤبة أن رجلين من أهل اللغة قصداه ليسألاه عن هذه الكلمة فخرج إليهما فقال أين تصيبان فقالا هذا مطلوبنا وبالجملة فالمقصود أنه تعالى جعل الريح مسخرة له حتى


الصفحة التالية
Icon