عبادتهم لها تقربهم إلى الله ويمكن أن يقال إن العاقل لا يبعد الصنم من حيث إنه خشب أو حجر وإنما يعبدونه لاعتقادهم أنها تماثيل الكواكب أو تماثيل الأرواح السماوية أو تماثيل الأنبياء والصالحين الذين مضوا ويكون مقصودهم من عبادتها توجيه تلك العبادات إلى تلك الأشياء التي جعلوا هذه التماثيل صوراً لها
وحاصل الكلام لعباد الأصنام أن قالوا إن الإله الأعظم أجل من أن يعبده البشر اللائق بالبشر أن يشتغلوا بعبادة الأكابر من عباد الله مثل الكواكب ومثل الأرواح السماوية ثم إنها تشتغل بعبادة الإله الأكبر فهذا هو المراد من قولهم مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى
واعلم أن الله تعالى لما حكى مذاهبهم أجاب عنها من وجوه الأول أنه اقتصر في الجواب على مجرد التهديد فقال إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ واعلم أن الرجل المبطل إذا ذكر مذهباً باطلاً وكان مصراً عليه فالطريق في علاجه أن يحتال بحيلة توجب زوال ذلك الإصرار عن قلبه فإذا زال الإصرار عن قلبه فبعد ذلك يسمعه الدليل الدال على بطلانه فيكون هذا الطريق أقضى إلى المقصود والأطباء يقولون لا بد من تقديم المنضج على سقي المسهل فإن بتناول المنضج تصير المواد الفاسدة رخوة قابلة للزوال فإذا سقيته المسهل بعد ذلك حصل النقاء التام فكذلك ههنا سماع التهديد والتخويف أولاً يجري مجرى سقي المنضج أولاً وإسماع الدليل ثانياً يجري مجرى سقي المسهل ثانياً فهذا هو الفائدة في تقديم هذا التهديد
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ والمراد أن من أصر على الكذب والكفر بقي محروماً عن الهداية والمراد بهذا الكذب وصفهم بهذه الأصنام بأنها آلهة مستحقة للعبادة مع علمهم بأنها جمادات خسيسة وهم نحتوها وتصرفوا فيها والعلم الضروري حاصل بأن وصف هذه الأشياء بالإلهية كذب محض وأما الكفر فيحتمل أن يكون المراد منه الكفر الراجع إلى الإعتقاد والأمر ههنا كذلك فإن وصفهم لها بالإلهية كذب واعتقادهم فيها بالإلهية جهل وكفر ويحتمل أن يكون المراد كفران النعمة والسبب فيه أن العبدة نهاية التعظيم ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه غاية الإنعام وذلك المنعم هو الله سبحانه وتعالى وهذه الأوثان لا مدخل لها في ذلك الإنعام فالإشتغال بعبادة هذه الأوثان يوجب كفران نعمة المنعم الحق
ثم قال تعالى لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ والمراد من هذا الكلام إقامة الدلائل القاهرة على كونه منزهاً عن الولد وبيانه من وجوه الأول أنه لو اتخذ ولداً لما رضي إلا بأكمل الأولاد وهو الإبن فكيف نسبتم إليه البنت الثاني أنه سبحانه واحد حقيقي والواحد الحقيقي يمتنع أن يكون له ولد أما أنه واحد حقيقي فلأنه لو كان مركباً لاحتاج إلى كل واحد من أجزائه وجزؤه غيره فكان يحتاج إلى غيره والمحتاج إلى الغير ممكن لذاته والممكن لذاته لا يكون واجب الوجود لذاته وأما أن الواحد لا يكون له ولد فلوجوه الأول أن الولد عبارة عن جزء من أجزاء الشيء ينفصل عنه ثم يحصل له صورة مساوية لصورة الوالد وهذا إنما يعقل في الشيء الذي ينفصل منه جزء والفرد المطلق لا يقال ذلك فيه الثاني شرط الولد أن يكون مماثلاً في تمام الماهية للوالد فتكون حقيقة ذلك الشيء حقيقة نوعية محمولة على شخصين وذلك محال لأن تعيين كل واحد منهما إن كان من لوازم تلك الماهية لزم أن لا


الصفحة التالية
Icon