والثاني اختلاف أحوال الليل والنهار وهو المراد ههنا من قوله يُكَوّرُ الَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوّرُ النَّهَارَ عَلَى الَّيْلِ وذلك لأن النور والظلمة عسكران مهيبان عظيمان وفي كل يوم يغلب هذا ذاك تارة وذلك هذا أخرى وذلك يدل على أن كل واحد منهما مغلوب مقهور ولا بد من غالب قاهر لهما يكونان تحت تدبيره وقهره وهو الله سبحانه وتعالى والمراد من هذا التكوير أنه يزيد في كل واحد منهما بقدر ما ينقص عن الآخر والمراد من تكوير الليل والنهار ما ورد في الحديث ( نعوذ الله من الحور بعد الكور ) أي من الإدبار بعد الإقبال واعلم أنه سبحانه وتعالى عبر عن هذا المعنى بقوله يُكَوّرُ الَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وبقوله يَغْشَى وَهُوَ الَّذِى ( الأعراف ٥٤ ) وبقوله يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ ( فاطر ١٣ ) وبقوله وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَة ً لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ ( الفرقان ٦٢ ) والثالث اعتبار أحوال الكواكب لا سيما الشمس والقمر فإن الشمس سلطان النهار والقمر سلطان الليل وأكثر مصالح هذا العالم مربوطة بهما وقوله كل يجري لأجل مسمى الأجل المسمى يوم القيامة لا يزالان يجريان إلى هذا اليوم فإذا كان يوم القيامة ذهبا ونظيره قوله تعالى الأجل المسمى يوم القيامة لا يزالان يجريان إلى هذا اليوم فإذا كان يوم القيامة ذهبا ونظيره قوله تعالى وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ( القيامة ٩ ) والمراد من هذا التسخير أن هذه الأفلاك تدور كدوران المنجنون على حد واحد إلى يوم القيامة وعنده تطري السماء كطي السجل للكتب
ولما ذكر الله هذه الأنواع الثلاثة من الدلائل الفلكية قال أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ والمعنى أن خلق هذه الأجرام العظيمة وإن دل على كونه عزيزاً أي كامل القدرة إلا أنه غفار عظيم الرحمة والفضل والإحسان فإنه لما كان الإخبار عن كونه عظيم القدرة يوجب الخوف والرهبة فكونه غفاراً يوجب كثرة الرحمة وكثرة الرحمة توجب الرجاء والرغبة ثم إنه تعالى أتبع ذكر الدلائل الفلكية بذكر الدلائل المأخوذة من هذا العالم الأسفل فبدأ بذكر الإنسان فقال خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَة ٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ودلالة تكون الإنسان على الإله المختار قد سبق بيانها مراراً كثيرة فإن قيل كيف جاز أن يقول خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَة ٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا والزوج مخلوق قبل خلقهم أجابوا عنه من وجوه الأول أن كلمة ثم كما تجيء لبيان كون إحدى الواقعتين متأخرة عن الثانية فكذلك تجيء لبيان تأخر أحد الكلامين عن الآخر كقول القائل بلغني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت أمس كان أعجب ويقول أيضاً قد أعطيتك اليوم شيئاً ثم الذي أعطيتك أمس أكثر الثاني أن يكون التقدير خلقكم من نفس خلقت وحدها ثم جعل منها زوجها الثالث أخرج الله تعالى ذرية آدم من ظهره كالذر ثم خلق بعد ذلك حواء
واعلم أنه تعالى بما ذكر الاستدلال بخلقة الإنسان على وجود الصانع ذكر عقيبه الاستدلال بوجود الحيوان عليه فقال وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الاْنْعَامِ ثَمَانِيَة َ أَزْواجٍ وهي الإبل والبقر والضأن والمعز وقد بينا كيفية دلالة هذه الحيوانات على وجود الصانع في قوله وَالاْنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْء ( النحل ٥ ) وفي تفسير قوله تعالى وَأَنزَلَ لَكُمْ وجوه الأول أن قضاء الله وتقديره وحكمه موصوف بالنزول من السماء لأجل أنه كتب في اللوح المحفوط كال كائن يكون الثاني أن شيئاً من الحيوان لا يعيش إلا بالنبات والنبات لا يقوم إلا بالماء والتراب والماء ينزل من السماء فصار التقدير كأنه أنزلها الثالث أنه تعالى خلقها في الجنة ثم أنزلها إلى الأرض وقوله ثَمَانِيَة َ أَزْواجٍ أي ذكر وأنثى من الإبل والبقر والضأن والمعز والزوج اسم لكل واحد معه آخر فإذا انفرد فهو فرد منه قال تعالى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالاْنثَى ( القيامة ٣٩ )


الصفحة التالية
Icon