ثم قال تعالى يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مّن بَعْدِ خَلْقٍ وفيه أبحاث
الأول قرأ حمزة بكسر الألف والميم والكسائي بكسر الهمزة وفتح الميم والباقون أمهاتكم بضم الألف وفتح الميم
الثاني أنه تعالى لما ذكر تخليق الناس من شخص واحد وهو آدم عليه السلام أردفه بتخليق الأنعام وإنما خصها بالذكر لأنها أشرف الحيوانات بعد الإنسان ثم ذكر عقيب ذكرهما حالة مشتركة بين الإنسان وبين الأنعام وهي كونها مخلوقة في بطون أمهاتهم وقوله خَلْقاً مّن بَعْدِ خَلْقٍ المراد منه ما ذكره الله تعالى في قوله وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَة ً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَة َ عَلَقَة ً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَة َ مُضْغَة ً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَة َ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً ءاخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ ( المؤمنون ١٢ ١٤ ) وقوله فِى ظُلُمَاتِ ثَلَاثَة ً قيل الظلمات الثلاث البطن والرحم والمشيمة وقيل الصلب والرحم والبطن ووجه الاستدلال بهذه الحالات قد ذكرناه في قوله هُوَ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الاْرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء
واعلم أنه تعالى لما شرح هذه الدلائل ووصفها قال ذالِكَ اللَّهُ رَبُّكُمُ أي ذلكم الشيء الذي عرفتم عجائب أفعاله هو الله ربكم وفي هذه الآية دلالة على كونه سبحانه وتعالى منزهاً عن الأجزاء والأعضاء وعلى كونه منزهاً عن الجسمية والمكانية وذلك أنه تعالى عندما أراد أن يعرف عباده ذاته المخصوصة لم يذكر إلا كونه فاعلاً لهذه الأشياء ولو كان جسماً مركباً من الأعضاء لكان تعريفه بتلك الأجزاء والأعضاء تعريفاً للشيء بأجزاء حقيقته وأما كان ذلك القسم ممكناً لكان الاكتفاء بهذا القسم الثاني تقصيراً ونقصاً وذلك غير جائز فعلمنا أن الاكتفاء بهذا القسم إنما حسن لأن القسم الأول محال ممتنع الوجود وذلك يدل على كونه سبحانه وتعالى متعالياً عن الجسمية والأعضاء والأجزاء
ثم قال تعالى لَهُ الْمُلْكُ وهذا يفيد الحصر أي له الملك لا لغيره ولما ثبت أنه لا ملك إلا له وجب القول بأنه لا إله إلا هو لأنه لو ثبت إله آخر فذلك الإله إما أن يكون له الملك أو لا يكون له الملك فإن كان له الملك فحينئذ يكون كل واحد منهما مالكاً قادراً ويجري بينهما التمانع كما ثبت في قوله لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء ٢٢ ) وذلك محال وإن لم يكن للثاني شيء من القدرة والملك فيكون ناقصاً ولا يصلح للإلهية فثبت أنه لما دل الدليل على أنه لا ملك إلا الله وجب أن يقال لا إله للعالمين ولا معبود للخلق أجمعين إلا الله الأحد الحق الصمد ثم اعلم أنه سبحانه لما بين بهذه الدلائل كمال قدرة الله سبحانه وحكمته ورحمته رتب عليه تزييف طريقة المشركين والضالين من وجوه الأول قوله فَأَنَّى تُصْرَفُونَ يحتج به أصحابنا ويحتج به المعتزلة أما أصحابنا فوجه الاستدلال لهم بهذه الآية أنها صريحة في أنهم لم ينصرفوا بأنفسهم عن هذه البيانات بل صرفها عنهم غيرهم وما ذاك الغير إلا الله وأيضاً فدليل العقل يقوي ذلك لأن كل واحد يريد لنفسه تحصيل الحق والصواب فلما لم يحصل ذلك وإنما حصل الجهل والضلال علمنا أنه من غيره لا منه وأما المعتزلة فوجه الاستدلال لهم أن قوله فَأَنَّى تُصْرَفُونَ تعجب من هذا الانصراف ولو كان الفاعل لذلك الصرف هو الله تعالى لم يبق لهذا التعجب معنى


الصفحة التالية
Icon