ثم قال تعالى إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِى ٌّ عَنكُمْ والمعنى أن الله تعالى ما كلف المكلفين ليجر إلى نفسه منفعة أو ليدفع عن نفسه مضرة وذلك لأنه تعالى غني على الإطلاق ويمتنع في حقه جر المنفعة ودفع المضرة وإنما قلنا إنه غني لوجوه الأول واجب الوجود لذاته وواجب الوجود في جميع صفاته ومن كان كذلك كان غنياً على الإطلاق الثاني أنه لو كان محتاجاً لكانت تلك الحاجة إما قديمة وإما حادثة والأول باطل وإلا لزم أن يخلق في الأزل ما كان محتاجاً إليه وذلك محال لأن الخلق والأزل متناقض والثاني باطل لأن الحاجة نقصان والحكيم لا يدعوه الداعي إلى تحصيل النقصان لنفسه الثالث هب أنه يبقى الشك في أنه هل تصح الشهوة والنفرة والحاجة عليه أم لا أما من المعلوم بالضرورة أن الإله القادر على خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم والعرش والكرسي والعناصر الأربعة والمواليد الثلاثة يمتنع أن ينتفع بصلاة زيد وصيام عمرو وأن يضر بعدم صلاة هذا وعدم صيام ذاك فثبت بما ذكرنا أن جميع العالمين لو كفروا وأصروا على الجهل فإن الله غني عنهم
ثم قال تعالى بعده وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ يعني أنه وإن كان لا ينفعه إيمان ولا يضره كفران إلا أنه لا يرضى بالكفر واحتج الجبائي بهذه الآية من وجهين الأول أن المجبرة يقولون إن الله تعالى خلق كفر العباد وإنه من جهة ما خلقه حق وصواب قال ولو كان الأمر كذلك لكان قد رضى الكفر من الوجه الذي خلقه وذلك ضد الآية الثاني لو كان الكفر بقضاء الله تعالى لوجب علينا أن نرضى به لأن الرضا بقضاء الله تعالى واجب وحيث اجتمعت الأمة على أن الرضا بالكفر كفر ثبت أنه ليس بقضاء الله وليس أيضاً برضاء الله تعالى وأجاب الأصحاب عن هذا الاستدلال من وجوه الأول أن عادة القرآن جارية بتخصيص لفظ العباد بالمؤمنين قال الله تعالى وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاْرْضِ هَوْناً ( الفرقان ٦٣ ) وقال عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ ( الإنسان ٦ ) وقال إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ( الحجر ٤٢ ) فعلى هذا التقدير قوله وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ولا يرضى للمؤمنين الكفر وذلك لا يضرنا الثاني أنا نقول الكفر بإرادة الله تعالى ولا نقول إنا برضا الله لأن الرضا عبارة عن المدح عليه والثناء بفعله قال الله تعالى لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ ( الفتح ١٨ ) أي يمدحهم ويثنى عليهم الثالث كان الشيخ الوالد ضياء الدين عمر رحمه الله يقول الرضا عبارة عن ترك اللوم والاعتراض وليس عبارة عن الإرادة والديل عليه قول ابن دريد
رضيت قسراً وعلى القسر رضامن كان ذا سخط على صرف القضا أثبت الرضا مع القسر وذلك يدل على ما قلناه والرابع هب أن الرضا هو الإرادة إلا أن قوله وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ عام فتخصيصه بالآيات الدالة على أنه تعالى يريد الكفر من الكافر كقوله تعالى وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ( الإنسان ٣٠ ) والله أعلم
ثم قال تعالى وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ والمراد أنه لما بين أنه لا يرضى الكفر بين أنه يرضى الشكر وفيه مسائل
المسألة الأولى اختلف القراء في هاء يَرْضَهُ على ثلاثة أوجه أحدها قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة بضم الهاء مختلسة غير متبعة وثانيها قرأ أبو عمرو وحمزة في بعض الروايات يرضه ساكنة الهاء للتخفيف وثالثها قرأ نافع في بعض الروايات ابن كثير وابن عامر والكسائي مضمومة الهاء


الصفحة التالية
Icon