النوع الثالث من الأشياء التي أمر الله رسوله أن يذكرها قوله قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِى فإن قيل ما معنى التكرير في قوله قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدّينَ وقوله قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِى قلنا هذا ليس بتكرير لأن الأول إخبار بأنه مأمور من جهة الله بالإتيان بالعبادة والثاني إخبار بأنه أمر بأن لا يعبد أحداً غيره وذلك لأن قوله أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ لا يفيد الحصر وقوله تعالى قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ يفيد الحصر يعني الله أعبد ولا أعبد أحداً سواه والدليل عليه أنه لما قال بعد قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ قال بعده فَاعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مّن دُونِهِ ولا شبهة في أن قوله فَاعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مّن دُونِهِ ليس أمراً بل المراد منه الزجر كأنه يقول لما بلغ البيان في وجوب رعاية التوحيد إلى الغاية القصوى فبعد ذلك أنتم أعرف بأنفسكم ثم بين تعالى كمال الزجر بقوله قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ لوقوعها في هلاك لا يعقل هلاك أعظم منه وخسروا أهليهم أيضاً لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهاباً لا رجوع بعده ألبتة وقال ابن عباس إن لكل رجل منزلاً وأهلاً وخدماً في الجنة فإن أطاع أعطى ذلك وإن كان من أهل النار حرم ذلك فخسر نفسه وأهله ومنزله وورثه غيره من المسلمين والخاسر المغبون ولما شرح الله خسرانهم وصف ذلك الخسران بغاية الفظاعة فقال أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ كان التكرير لأجل التأكيد الثاني أنه تعالى ذكر في أول هذه الكلمة حرف ألا وهو للتنبيه وذكر التنبيه في هذا الموضع يدل على التعظيم كأنه قيل إنه بلغ في العظمة إلى حيث لا تصل عقولكم ليها فتنبهوا لها الثالث أن كلمة ( هو ) في قوله هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ تفيد الحصر كأنه قيل كل خسران فإنه يصير في مقابلته كلا خسران الرابع وصفه بكونه ( مبيناً ) يدل على التهويل وأقول قد بينا أن لفظ الآية يدل على كونه خسراناً مبيناً فلنبين فحسب المباحث العقلية كونه خسراناً مبيناً وأقول نفتقر إلى بيان أمرين إلى أن يكون خسراناً ثم كونه مبيناً أما الأول فتقريره أنه تعالى أعطى هذه الحياة وأعطى العقل وأعطى المكنة وكل ذلك رأس المال أما هذه الحياة فالمقصود منها أن يكتسب فيها الحياة الطيبة في الآخرة
وأما العقل فإنه عبارة عن العلوم البديهية وهذه العلوم هي رأس المال والنظر والفكر لا معنى له إلا ترتيب علوم ليتوصل بذلك الترتيب إلى تحصيل علوم كسبية فتلك العلوم البديهية المسماة بالعقل رأس المال وتركيبها على الوجوه المخصوصة يشبه تصرف التاجر في رأسه المال وتركيبها على الوجوه بالبيع والشراء وحصول العلم بالنتيجة يشبه حصول الربح وأيضاً حصول القدرة على الأعمال يشبه رأس المال واستعمال تلك القوة في تحصيل أعمال البر والخير يشبه تصرف التاجر في رأس المال وحصول أعمال الخير والبر يشبه الربح إذا ثبت هذا فنقول إن من أعطاه الله الحياة والعقل والتمكن ثم إنه لم يستفد منها لا معرفة الحق ولا عمل الخير ألبتة كان محروماً عن الربح بالكلية وإذا مات فقد ضاع رأس المال بالكلية فكان ذلك خسراناً فهذا بيان كونه خسراناً وأما الثاني وهو بيان كون ذلك الخسران مبيناً فهو أن من لم يربح الزيادة ولكنه مع ذلك سلم من الآفات والمضار فهذا كما لم يحصل له مزيد نفع لم يحصل له أيضاً مزيد ضرر أما هؤلاء الكفار فقد استعملوا عقولهم التي هي رأس مالهم في استخراج وجوه الشبهات وتقوية الجهالات والضلالات واستعملوا قواهم وقدرهم في أفعال الشر والباطل والفساد فهم قد جمعوا بين أمور في غاية الرداءة أولها أنهم أتعبوا أبدانهم وعقولهم طلباً في تلك العقائد الباطلة والأعمال الفاسدة


الصفحة التالية
Icon